السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأهلاً ومرحباً بكم في الحلقة الثالثة من حلقات (شاهد على العصر) مع ضيفنا العزيز الأستاذ عطا الله بن غنام المغربي رجل التعليم والتربية والقائد التربوي الذي عاصر أكثر من جيل وتنقل بين أكثر من موقع وعاصر الكثير من أحداث عصره على مدار خمسة عقود.
حارة الطينة كانت حاضرة غران ومنها شع نور العلم
وحلقة هذا الأسبوع ستكون من أرض الحدث ومن الموقع الذي شهد أحداثاً كثيرة وأختزل العديد من الذكريات لضيفنا على مدار ١٣ عاماً قضاها فيها .. انتقلنا إلى حارة الطينة حيث أول مقر لمدرسة موسى بن نصير الابتدائية التي عمل بها معلماً ثم مديراً وكانت هي حاضرة غران وقلبها النابض والمكان الذي شع منه نور العلم ليمحو جحافل الظلام والجهل عن أبناء غران ويحدث نقلة نوعية في الحياة .. هذه الحارة للأسف أصبحت الآن مجرد أطلال ولم يتبقى منها سوى معالم بسيطة بالكاد تتلمس من خلالها خارطة المكان ..
حرصت أن تكون جلستنا في المكان الذي كان يوماً ما مبنى المدرسة ، فرشنا البساط وجلسنا في الهواء الطلق ..كنت أريد من هذا الموقف أن اساعده في استدعاء ذكريات ومواقف مرت عليها سنوات بل عقود من الزمن وتركت ضيفي يجول بذاكرته ويسترجع ما تجود به الذاكرة من قصص وأحداث للحظات ..
ثم بادرته بالسؤال الأول: ماذا يعني لك هذا المكان ؟
فتنهد ونظر الى المكان وقال هنا قضيت أجمل أيام حياتي العملية .. فرغم صعوبة الحياة في ذلك الوقت ورغم المشاق والمتاعب في التنقلات وشظف العيش وقسوة الحياة إلا أننا كنا نجد لذة في كل شيء وكنا نشعر بالسعادة والفرح لأدنى سبب .. هنا ذكريات بداية حياتي العملية .. هنا تعرفت علي أناس كونت معهم علاقات ما زالت إلى اليوم مستمرة وكان لي معهم ذكريات ما زلت أتذكرها كأنها من سنة رغم بعد المسافة لكنها كانت تستعصي على النسيان فهي قوية وراسخة في الذاكرة.
(الحراثة) .. كانت وسيلة مواصلاتنا من خليص إلى غران كل أسبوع
ودعني أسأل في البداية متى وطئت قدماك هذا المكان لأول مرة وحيث أنك كنت تسكن في خليص فكيف كانت وسيلة المواصلات ؟
أول مرة أصل إلى هذا المكان كان في عام 1388 وهو, العام الذي تخرجت فيه من معهد إعداد المعلمين وتعينت مباشرة في مدرسة موسى بن نصير الابتدائية بغران.
أما المواصلات فقد كانت إحدى العقبات في ذلك الوقت وكانت التنقلات صعبة حيث لا يوجد سوى سيارات الخضرة (اللواري) وكنا نحن المعلمون من خليص ولك أن تتخيل كيف كنا نأتي في بداية الأسبوع إلى هنا لنمكث أسبوع كامل ثم نعود إلى أهلنا .. لقد كنا نأتي على (محراث) .. نعم كنا نركب على ظهر المحراث من خليص .. نتحرك بعد صلاة العشاء تقريباً متوجهين نحو المدرسة ونعزب بالمدرسة حتى نهاية الأسبوع ثم نعود إلى خليص ، وكان الدوام ٦ أيام في الأسبوع من السبت حتى الخميس والإجازة يوم واحد فط هو يوم الجمعة.
كانت مع صعوبة المواصلات إلا أنها حلوة ونحس بالرغبة في العمل وكنت أدرس مادة اللغة العربية ، وبعد عام من تعييني ، تم نقل مدير المدرسة الأستاذ دخيل العصلاني الى مدرسة اخرى وعينت مديرا للمدرسة بدلاً منه ، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي و المسئولية كبرت علي وكان كل همي أن أشجع أولياء الأمور على أن يلحقوا أبناءهم في المدارس وأن أقضي على عملية التسرب من الدراسة فقد كانت نسبة من يتسربون من المدرسة وينقطعون عن اكمال الدراسة كبير لعدد من الظروف وبحمد الله كونت علاقات جيدة مع أولياء الأمور واكتسبت محبتهم وثقتهم مما أوجد لديهم الرغبة في الحاق أبناءهم بالمدرسة.
حميد بن نصاح كان يعمل بصمت وإخلاص وكان صاحب نظرة بعيدة
وواجه معارضة شديدة من بعض الأهالي في فتح مدرسة للبنات
الشيخ حميد بن نصاح الصحفي رجل التعليم الأول ومؤسس المدارس في غران .. هلا حدثتنا عنه ؟
الشيخ حميد بن أحمد بن نصاح الصحفي يعتبر هو المؤسس الحقيقي ويرجع الفضل لله ثم له في انتشار التعليم في غران، وسرني جداً إيجاد جائزة بإسمه فهو يستحق ذلك بكل جدارة و، أسأال الله تعالى أن يثيبه ويجزيه خير الجزاء على ما قدم وأن يجعله في موازين حسناته أجراً لا ينقطع إلى يوم القيامة وأن يكون كل من تعلم حرفاً في هذه المدرسة منذ ذلك الوقت إلى اليوم في ميزان حسناته.
لقد كانت ذكريات جميلة لي مع هذا الرجل الذي كان يعمل بإخلاص وفي صمت، كنا نجتمع أنا وهو سوياً باستمرار وكان همه وتفكيره كيف يطور المنطقة ويستحدث فيها المدراس والخدمات، فوضعنا أيدينا بأيدي بعض وقررنا أن نبدأ العمل، واتفقنا على إحداث مدرسة بنات والمطالبة باستكمال مراحل التعليم المتوسط والثانوي، وجهز أبن نصاح مبنى للفصول الدراسية لمدرسة البنات
وطلبنا من الأهالي أن يسجلون أسماء بناتهم لكي نقدم طلب للرئاسة بافتتاح مدرسة للبنات ، وكأي منطقة كانت المعارضة في فتح مدارس للبنات شديدة . حيث عارض بعض الأهالي فتح المدرسة ، ولكن البعض كان موافق وبعد محاولات وجولات ومقابلات استطعنا تسجيل ٤٠ طالبة …
فأخذت كشف الأسماء وكتبت خطاب المطالبة بفتح مدرسة وذهبت إلى الشيخ محمد صالح بن عبيد الصحفي أطلب منه الموافقة والتوقيع فقال :أمهلني ثلاثة أيام أشاور ربعي. وفعلا بعد ثلاثة أيام أتاني حفيده الاستاذ عبدالرحيم بن إبراهيم الصحفي وقال : جدي يدعوك أن تأتي إليه فذهبت ووقع لي على الأوراق والخطاب ثم ذهبنا أنا وحميد الى الشيخ ابن نفاع وشرحنا له الموضوع ووافق ووقع لنا وهنا أخذت الأوراق وذهبت إلى الأمير تركي أمير خليص وأتيته عصرا ووجدت عنده الشيخ حسن الشيخ وقدمت له الأوراق طالبا منه الموافقه ورفعها الى مكة لاعتمادها وفعلا تمت الموافقة وقام برفع المعاملة وبعد أسبوعين وإذا بمحمد الصفراني وكيل إمارة خليص وسعود المطيري رئيس لجنة قادمة من مكة للنظر في فتح المدرسة المطلوبة . أخذناهم للمدرسة و كان حميد مجهز المبنى وأخذت أنا لها سبورات وطباشير من مدرسة الأولاد وعاينوا المدرسة فاذا بها جاهزة وعدد الطالبات يسمح بفتح مدرسة فأقرت اللجنة فتح المدرسة …
بهذه الطريقة تغلبنا على مشكلة توفير معلمات لمدرسة البنات
لكن بقيت مشكلة المعلمات .. من أين لنا بمعلمات ؟! المنطقة كلها مافيها معلمات … فقالوا لنا دبروا معلمات ! وتوقفت المدرسة على المعلمات فهي جاهزة من كل شيء. الموافقة وصدرت والمبنى جاهز والطالبات جاهزات .. لكن الوزارة ليس لديها معلمات … فقلت : عندي أنا أوفر معلمات إن شاء الله ، فوافقت اللجنة وطلبوا مني رفع الأسماء لإعتمادها، فذهبت الى خليص وكان فيه معلم فلسطيني اسمه رجب الطواشه وزوجته معه فطلبت منه أن تكون زوجته معلمه فوافق وكان هناك رجل آخر اسمه مصطفى فلسطيني وعرضت عليه أن تعمل زوجته معلمه فوافق هو الآخر ، لكن واجهتنا مشكلة أخرى وهي مشكلة المواصلات .. كيف ندبر مواصلات للمعلمات؟….
فاشتريت وانيت داتسون، وتحملت نقل المعلمات من خليص الى غران يوميا بسيارتي وبعد أربعة أشهر عينا مصطفى زوج أحد المعلمات معلم عندنا وهنا سكن المعلم بالقرب من المدرسة ومعه زوجته وزوجة صديقه الاستاذ رجب وكملت السنة وبدأ الإقبال على المدرسة يتزايد وحميد جزاه الله خير كل سنة يبنى فصول جديدة.
كل ماكنا نطلبه يتم وسعينا في طلب مركز إمارة ولكن لم يتابعه الطلب أحد
وماذا عن بقية الخدمات الأخرى غير المدارس ؟
بنفس الأسلوب كنا نكتب المعاريض ونوقعها ونتقدم بها للجهات المختصة، طالبنا بخزان مياة وأتى ومن ثم مستوصف وتحقق وقد ذهبت الى رابغ في السعي للبريد وتم خلال شهر تقريبا كانت الأمور ميسرة وسهلة جدا وأصبحت حارة الطينة هي حاضرة غران وانتشر منها العلم وسعينا في طلب مركز إمارة وقدمنا الطلب لكن لم يتابعه أحد فيما بعد
حدثنا عن مدرسة موسى بن نصير وعن المعلمين والطلاب في ذلك الوقت ؟
المدرسة كانت في حراك دائم طول اليوم ففي الصباح دراسة نهارية وبالعصر نشاط رياضي وألعاب ومسابقات وبعد المغرب تبدأ الدراسة الليلية. وكان يوجد بالمدرسة نخبة من أفضل المعلمين خلقاً وعلماً وإخلاصاً ، كانوا يقدرون المسؤولية ويحرصون على فائدة الطلاب وكنت اختار المعلم المناسب خاصة للمرحلة الأولية أولى وثانية وثالثة وكان الطلاب يحترمون المعلم ويجلونه ويقدرونه…كان هناك إفراط في الضرب من قبل المعلمين إلا أنه لم يحدث أن جاء أحد من أولياء الأمور يشتكى بل كانوا يقولون لنا “لكم اللحم ولنا العظم”” وهي الثقافة السائدة في ذلك الوقت.
قلت له أخبرني كيف كنتم تحضرون طعامكم وأنتم عزوبية ؟
فضحك وقال كنا موزعين العمل بيننا كل واحد حسب مهارته فقد كان الاستاذ عبدالله سعدي يجهز الدقيق ويعجين ويخبز لنا الخبز والأستاذ مهدي كان صياد إذا جاء موسم الصيد يصيد السمان والبقية إذا جاء بعد العصر نزلوا المزارع المجاورة يحضرون لنا منها ما لذ وطاب من أنواع الخضار التي كانت تشتهر بها غران حيث كانت غران واحة خضراء من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها كلها مزارع تنتج أجود وأطيب أنواع الخضروات، وكان عندنا أذن مفتوح من جميع أصحاب المزارع بأن نأخذ منها ما نشاء وهذا من كرمهم وحبهم لإكرام الضيف وتقديرهم بصفة خاصة للمعلمين وكنا نطبخ بأنفسنا ونحضر الماء بالجوالين من الآبار المجاورة. وفتحت بجوار المدرسة دكاكين منها دكان عبدالدائم ودكان عويمر (الله يرحمهم) ودكان حمدان ودكان فهيد (الله يعطيهم الصحة والعافية وطولة العمر).
من تتذكر من سكان حارة الطينة ؟
أتذكر محمد بن عوض وأبو شعبة وأحمد بن نصاح وعبدالواحد بن فالح وعبدالحفيظ بن هادي وأبو فرانسه وساعد وغيرهم كثير من حارة الطينة لكن استسمحهم عذراً لأن الذاكره لا تسعفني بذكرهم بهم الآن ….
ماهي أبرز المواقف التي مازالت عالقة بالذاكرة ؟
اتذكر كم من الطلاب قد ترك الدراسة بسبب الحالة المادية الصعبة في ذلك الوقت وكم مرة ذهبت إلى أهاليهم اطلب إرجاعهم للمدرسة. اتذكر كم طالب ترك المدرسة وهو بالصف السادس لعدم وجود حفيظ نفوس لدى والده. واذكر أني أخذت بعض أولياء الامور الى رابغ لاستخراج توابع لهم حتى يتمكن أبناؤهم من مواصلة التعليم.
لجنة الامتحانات شكت في طلابنا بسبب الدرجات العالية وطلبت تشديد المراقبة عليهم
واتذكر جيداً ايام الاختبارات حينما كانت برابغ ، كانت امتحانات شهادة السادس إبتدائي تعقد في رابغ فكنت آخذ طلاب الصف السادس مع لجنة من المعلمين وبعض من أولياء امور الطلاب ونعزب في رابغ طيلة فترة الاختبارات، نذهب معهم للمدرسة في الصباح يختبرون ثم نرجع بهم للعزبة وتبدأ فترة المذاكرة استعداد لامتحان اليوم التالي إلى وقت النوم. ونحن واقفين عليهم نشرح ونعيد ونكرر وﻻ نترك أحد دون أن يكون مستعد للاختبار استعداد تام. وكنت احضر لهم أسئلة الاعوام السابقة ونراجهعا مع طلابنا مادة مادة حتى يحفظونها عن ظهر قلب لدرجة أن لجنة الاختبارات شكت في نتائج طلابنا واخبروني بعزمهم وضع مراقب خاص على طلابي بسبب النتائج الكبيرة التي يتحصلون عليها. فقلت لهم لا تحطون واحد ولا إثنين حطوا ثلاثة مراقبين، طلابي وأنا أعرفهم . وبحمد الله كان طلابنا في المتخرجين من الصف السادس يحصلون على درجات عالية جداً .. وكان امتحان الصف السادس يحظى باهتمام الوزارة والأسئلة تأتي مغلفة بالشمع الأحمر ولا تفتح إلا بواسطة لجنة صباح يوم الامتحان والتصحيح يتم في جدة وتعلن النتائج عبر الإذاعة وكان النجاح صعب لدرجة أن بعض المدارس لم ينجح أحد.
وهنا توقفت عن الأسئلة لكي يرتاح ضيفنا الكريم قليلا … ثم سرنا على الأقدام على المكان الذي كان يوماً ما مدرسة فقال يحزنني ازالة المباني وهدم المدرسة وياليتكم صورتوها واحتفظتم بها فهي من الذكريات الجميلة لكل من درس وتعلم فيها من أبناء غران وبالتأكيد له فيها من الذكريات مثل ما لي أو أكثر…. وتوقف ليقول لي هذه غرفة الإدارة وهذا طرف السور وهنا الطابور الصباحي والفصول تبدأ من هنا بعد الإدارة وأخذ يعد ثم قال في الطرف هنا سور المدرسة الشرقي وملاصقة له عزبة المعلمين.
ثم مشينا باتجاه الشمال حتى وقفنا على أطلال بناء جزء منه من الطين وجزء من الطوب قال هذا دكان عبدالدائم الله يرحمه. وهو الأثر الوحيد الذي لم يهدم في ذلك المكان.
ثم انتقلنا إلى أراضي المزارع التي كانت حول المدرسة ومشينا فيها … وما زال يتذكرها ويعددها .. هنا كانت مزرعة عبدالدائم وهنا مزرعة ابن حميد ومزرعة حميد بن نصاح … وقال والله كنا نأتي لهذه المزارع ونأخذ منها من كل ما يزرع بها من خضروات .. ووالله يا ولدي لم يردنا أحد أويطلب منا شيء على اي خضرة نأخذها … كرم ما بعده كرم…
ومع الغروب عدنا من الجولة باتجاه السيارة وسمعنا الأذان فتذكر وقال هنا كان المسجد الذي نصلي فيه بجوار المدرسة وكان في البداية يستخدم كفصول دراسية فكم من الطلاب درس السنوات الأولى علي الحنابل في المسجد.
مشيت معه وهو يقول ثلاثة عشر عاما مضيتها هنا كانت من اجمل أيام حياتي وأكثرها انجاز
ما أسرع الايام يا ولدي وما أعجب أحوالها . من كان يصدق أن تلك الحارة الحاضرة المشعة بالعلم والخدمات أن تنتهي ولم يبقى منها سوى هذا الخزان وبقايا من ركام لا توحي لك أبدا ان هناك كانت حارة حاضرة ولا مدارس بنين وبنات . سبحان الله كيف تغيرت الأحوال وأصبحت الأرض غير الأرض !
وعلى وقع هذه الكلمات ودعت ضيفي العزيز على أمل بلقاء قريب نستكمل فيه معه بقية الذكريات الجميلة …
وقد يتأخر اللقاء بعض الوقت لأن ضيفنا سيسافر إلى الخارج لإجراء عملية عيون .. نسأل الله تعالي له الشفاء والصحة والعافية وأن يعيده إلى أرض الوطن سالماً معافي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته