قراءة في التأويل الحداثي للتراث

الكتب نوعان: كتب تثريك في موضوع أنت تعرفه وهذه غالب الكتب وغالب ما يُقرأ والسواد الأعظم في كل مكتبة، وكتب تنقلك إلى فضاء جديد، فكرة جديدة، وتعيد معها مراجعة أفكارك وما تعلمته من كتب النوع الأول.

قرأت كثيرًا في كتب أصحاب الاتجاه الحداثي في تأويل التراث الإسلامي سواء الاستشراقي أو العربي، ووجدت فيها مساراتٍ وأفكارًا لم تمر علي، وأنا المطلع بتوسع في الدراسات الشرعية التقليدية! ثم بعد أن شكلت شيئًا من طريقة تفكيري، أتى كتاب عظيم، والذي سيكون محل للعرض في هذا المقال؛ لفتح مسار آخر ورؤية تعيد الاتزان.

يكشف الباحث والمفكر الإسلامي الشاب إبراهيم السكران في كتابه «التأويل الحداثي للتراث» تقنيات هذا التأويل، واستمداداته بطريقة تدل على ذكاء وسعة اطلاع، وهما صفتان قلّما تجدهما في باحث يتصدى لموضوع الحداثة، أو القراءة الحداثية للتراث الديني، وأقول: التراث الديني؛ لأن القراءة التأويلية تشمل: كل التراث، كالتاريخ والعلوم العقلية ولم تقتصر على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وجملة التأويل الحداثي للتراث.

وكما هو واضح في عنوان الكتاب المكونة من ثلاث كلمات: التأويل، والحداثة، والتراث، وقد أشرت في الأسطر السابقة إلى المراد بالتراث.

أما التأويل فلا يقصد به هنا تأويل المعنى لكلمة أو نص كما جرت العادة عند إطلاق هذا المصطلح، بمعنى تفسيرها بالمعنى البعيد دون القريب، إنما يقصد به تأويل الدافع لوجوده، وسيتبين من خلال العرض المقصود منه.

وعن الحداثة أقول: من الصعب أن أعرض في هذا المقال القصير فكرة الحداثة بتوسع، وتتبع لكل تجلياتها؛ لأن للحداثة تجليات في الاقتصاد كالنيوليبرالية، ولها تجلياتها الأدبية كشعر التفعيلة، والاتجاه الحداثي في الشكل والمضمون للقصيدة الذي اجتاح الأدب العربي في الثمانينات، وما قبلها وعن تجلياتها الاجتماعية.

أذكر أني قرأت كتابًا جيدًا في هذا الباب للدكتور الغذامي عنوانه: «حكاية الحداثة»، وإن كان قد تعرض هذا الكتاب للنقد، حتى قال أحدهم: – ساخرا – من أسلوب الغذامي في عرض الحراك الحداثي بقوله: لو سماه (حكاية الغذامي) لكان أقرب للصواب.

هذا الصراع بين الاتجاه الحداثي والمحافظ أخرج مجموعة من الكتب في تلك الفترة، وبالذات من قِبل من كان يتحكم بالساحة الإعلامية والشعبية آن ذاك، وهو الاتجاه المحافظ، وكان أهم ما صدر في هذا الباب، ولقي صدىً واسعًا، هو كتاب عوض القرني «الحداثة في الميزان».

بعد هذا الاستطراد الخارج عن ما أردت أن أعرض له في هذا المقال؛ وهو كتاب السكران، أقول إن أخطر تجليات الحداثة على الإطلاق هو التيار الحداثي التأويلي للتراث الديني؛ لأنها محاولة تشكيكية وغير بريئة عند تعاملها مع نصوص الوحيين وباقي التراث.

هذه الحركة بدأت أولاً عندما حاول بعض المستشرقين كالألماني نولدكه، وجولدزيهر، وغيرهما استخدام نظريات  الهرمنيوطيقا التفسيرية التي استُخدِمت في نقد الكتاب المقدس في عصر التنوير الأوروبي، وكذلك علم الفيلولوجيا  وسحبها على التراث الديني الإسلامي.

ولم يكن الهدف في الغالب بريئًا يقول رينان ـ وهو أحد أعمدة الاستشراق- “أعلن أني لست مشفقًا على الإسلام، وأني أتمنى للإسلام الموت المخزي، وأتمنى إذلاله”، ومن هذه المدرسة خرجت مدرسة الحداثة والتأويل في العالم الإسلامي ومن أهم روادها المعاصرين المصري نصر حامد أبو زيد، ومن أمثلة ما كتب في هذا الباب كتابه «مفهوم النص»، والجزائري محمد أركون في كتابه «القرآن »، والمغربي محمد عابد الجابري، في كتابه «مدخل لدراسة القرآن».

كشف السكران في كتابه التأويل الحداثي للتراث عن أهم التقنيات التي استخدمها الحداثيون في تأويلهم للتراث الديني الإسلامي، وهما: تقنية التوفيد، وتقنية التسييس، وأعتقد أن هذا الاستقراء الذكي، والذي استغرق من الكتاب ثمانين صفحة فقط، والكتاب بكامله بلغ عدد صفحاته ٤٤٤ صفحة، هو: أهم محتويات الكتاب من وجهة نظري، وسأقف باختصار عند كل تقنية لعل في عرضها ما يدفع القارئ الكريم إلى قراءة الكتاب والاستفادة منه.

تقنية التوفيد: المقصود بالتوفيد هو إرجاع غالب التشريعات الإسلامية والفنون الشرعية وغير الشرعية التي شكلت التراث الإسلامي إلى حضارة سابقة، وأن ما في أيدي المسلمين هو اقتباس وتوفيد، يقول السكران: المراد أن المستشرقين نظروا إلى علوم الإسلام باعتبارها مجرد عربة توصيل الكتب، ووظيفة المستشرقين استيقاف هذه العربة وفرز الكتب، وإرسال كل كتاب لصاحبه بطرود فيلولوجية؛ لتبقى عربة الإسلام فارغة!

إن أول من بدأ هذه الفكره ـ فكرة التوفيد ـ هم المستشرقون، وسأنقل نصًا واحدًا سيكون كاشفًا للفكرة عند المستشرقين، ثم يكون الكلام عن الحداثيين العرب.

يقول آدم متز: والواقع أنه ظهر في الميدان الفقهي ما ظهر في غيره من الميادين، وأهم ما حدث هو: تسرب آراء في التشريع، مما كان قبل عهد الإسلام إلى الفقه الإسلامي، كما حييت من جديد بعض النظريات اليونانية، والرومانية القديمة وقد قدم الكتاب كثيرًا من النصوص التي يتهم فيها أصحابها التراث الإسلامي أنه مأخوذ من غيره، دون تقديم دليل إنما محض تخرصات، أو مغالطات.

التوفيد عند الحداثيين العرب: يقول الجابري: ورثت الثقافة الغربية، والإسلامية كل علوم المعقول واللامعقول في الثقافات القديمة، ولاحظ التشابه بين كلامه وما قاله آدم متز  في النص الأسبق، وهذا أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام » يؤكد على تسرب الثقافة اليهودية إلى المسلمين، فجعل من عقيدة السلف في الصفات كالقول بالنزول والمجيء والاستواء  تشبيه مستنسخ من عقيدة اليهود!

ويختم الكاتب هذه الفكرة بالرد عليها وتفنيد شبهاتها، ويقول في النهاية: إن هذه التقنية أقدم من هذه المدارس كلها، وقد كانت حيلة أعداء الأنبياء للتنفير منهم، قال تعالى: « فيقولون ما هذا إلا أساطير الأولين ».

التقنية الأخرى التي اعتمدها الاستشراق ومن ثم الحداثيون العرب لتأويل التراث وتشويهه، هي تقنية التسييس، والمقصود بتقنية التسييس هو: افتعال خلفيات وأغراض سياسية خلف العلوم الإسلامية.

 وكما في التقنية السابقة أول من بدأ بوضع هذه الأداة وتشريح التراث الإسلامي من خلالها، هم المستشرقون، فترتيب السابقين للإسلام في الفضل كان لغرض سياسي كما يقول جولدزيهر، واختيار أبي بكر لزيد بن ثابت ليجمع القرآن؛ كان لغرض سياسي، فهو شاب سهل التطويع كما يقول نولدكه، أما أكثر ما طاله التشكيك والتشويه بفعل هذه التقنية فهو: الحديث النبوي، فشاخت يجزم أن كل الأحاديث اختلقها الفقهاء لتعزيز مذاهبهم! 

أما عن دور الحداثيون العرب في إعادة تصنيع هذه الأداة، فأحمد أمين يؤكد على أن الدولة العباسية وبدافع سياسي كان لها التأثير الأكبر في تدوين العلوم الشرعية، وفق أهوائها ومصالحها! ويقول الجابري: فاللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي والإسلامي لم يكن يحددها العلم إنما كانت تحددها السياسة.

 ومن عجائب ما ورد في هذا الباب وفيه دلالة على المجازفة والتهور في استخدام هذه الأداة وجعلها هي الحاكمة على التراث الديني دون التفريق بين صحيح التراث وضعيفه، فهذا نصر حامد أبو زيد، يقدم ورقة بحثية بعنوان «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية» يدعي فيها: أن الشافعي يقوم بمهمة سياسية لبني أمية، برغم أن الدولة الأموية سقطت عام ١٣٢، والشافعي ولد عام ١٥٠!

وخلاصة الموضوع أن الحداثيين العرب عندما أرادوا تأويل التراث من خلال نقده وتشريحه لم يقدموا جديدًا، إنما اجتروا تجارب المستشرقين وتقنياتهم؛ ليقدموا خطابًا غير بريء وغير علمي، رغم قشرته الخارجية التي تدعوك لتقبله كبحث علمي له أدواته المحكمة.

وأقول أخيرًا: إن ما قيل سابقًا لا ينسحب على كل ما كُتب في هذا الباب، ولا كل من كتب فيه، لكن عند القراءة يجب استحضار هذه المفاهيم ليسهل النقد والفرز.

مروان عبدالعليم الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *