لست متحدثاً هنا عن البر في كافة صوره وسماته ؛ فكتاب الله جل وعلا وسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام يزخران بالنصوص الكثيرة فيما يتعلق ببر الوالدين بالذات .. والشواهد والقرائن والسمات تنوء بحملها الأسفار ، لكنني هنا أود الإشارة أولا إلى أن البِر لا ينحصر في معناه التقليدي وهو بر الوالدين فتلك كما أسلفت قضايا إيمانية بنص الكتاب والسنة، ولكن مايعنيني بدايةً أن أشير الى أن البر ينصرف إلى كافة مجالات المحسوسات في هذا الكون.
ولنضرب مثالاً أولاً ببيوت الله جل وعلا ، فليس من البر اطلاقا عدم إحساس الفرد بمسؤوليته تجاه المسجد ومناشطه التعبدية والتربوية ، فقد كان في صدر الإسلام بمثابة الجامعة ففيه يُقضى بين الخصوم وفيه وفيه الكثير الكثير.
وإن من العقوق الاجتماعي في رأيي هنا عدم إكتراث الأفراد باحتياجات المسجد .. وكأن لسان حال الفرد يقول إن هناك وزارة تشرف عليه.
وإن مَن يتطاول على ثوابتنا الراسخة وقِيَمِنا الصحيحة وحقوقنا الأدبية بأي وسيلة كانت وبالذات من خلال تلك المسلسلات أو الأفلام ليملأوا خزائنهم بالإفلاس والاسفاف، إنهم يمثلون في تقديري أسوأ انواع العقوق الاجتماعي.
وفي مشهد يقابل هذا العقوق نرى أن هناك مَن لديه مخزون فكري سليم ويمتلك مهارات فنية وبالذات فيما يسمى بحوكمة التعاملات الإلكترونية وقد يكون منسوباً في إحدى الدوائر الحكومية ، إلا أنه يغدو مُنكفأ على نفسه متقوقعاً عليه يحبس آفاق انجازه كي لايستفيد الآخرون منه شيئاً فذلك لعمري يمثل درجةً غير بعيدة عن سابقيه الذين يهذون بما لايدرون في ثوابتنا وقيمنا الراشدة.
ثم نلمح تلك المنشآت الحكومية على اختلاف أنواعها ولنأخذ مثال على ذلك الجامعات فإن الطالب الآن وللأسف حتى المسؤولين لايكلفون أنفسهم عناء الإبلاغ عما يجدوه من ظواهر سلبية ومظاهر تتنافى وحُرمة المكان. فأنا شخصيا أرى ان تعاطي التدخين داخل أسوار الجامعة من العقوق الاجتماعي البارز .. ناهيك عن المساهمة في تلوث البيئة فتلك قصة أخرى ولكن ماعنيته هنا هو ان هذا التصرف من البعض ينافي حقيقة السلوك الإيجابي ويجافي واقع الرسالة التي صُمِّمَت من أجلها تلك المنشآت، وليس من الأخلاق ممارسة عادة سيئة في مكان الحسنات، فأماكن العلم كلها حسنات.
إن مَن يكن بمقدوره الالتفات إلى بعضِ الحالات -ليس بعين العطف أو الشفقه- بل بشهامة العقل الرزين ويتجاوز نظرة المجتمع لتلك الحالة لينظر إليها نظرة المودة والرحمة المنصوص عليها في كتاب الله جل وعلا ، فإنه إن لم يبادر ليحتويها وجدانياً وعاطفياً فإنه حتماً سيلبس ثوباً من ثياب العقوق الاجتماعي.
كذلك الحال فإن مَن يرى نشازاً اجتماعياً يتمثل في تغليب ثقافة العيب على أحكام الحلال والحرام دون أن يغدو لها مُصححاً ومعالجاً فإنه سيدخل حتماً داخل أروقة العقوق الاجتماعي.
ليس من البر اطلاقا مايمارسه الكثيرون من ويلات الصراع العائلي بحجة المحافظة على سياج الأسرة .. بل لقد أضحت تصرفات البعض عقوقا اجتماعيا لاتتحمله الأفئدة الطيبة
وأعظم من ذلك بروز أحد افراد الأسرة بمحاولة تطبيق عادة سيئة داخل ذلك السياج كتعاطي مايسمونه بالأرجيلة ويعتبر أن ذلك السلوك هو مجاراة للتطور المزعوم .. بلى والله انه من العقوق المحتوم .. أو قيام بعض أفراد الأسرة بمشاكسة أخيه او أخته وبالذات في قضايا الإرث .. فتلك من سمات العقوق الاجتماعي.
لقد أضحت نظرات الإقصاء التي يمارسها بعضاً ممن يحسبون أنفسهم كِباراً ضد مرؤسيهم أو اخوتهم الأصغر سناً أو أولئك الذين لايسألون الناس إلحافا ، كل ذلك في تصوري لايعدوا أن يكون ضرباً من أردى عقوق المجتمع.
إن ترك الأعمال التطوعية -أياً كانت وفي أي جانب من جوانب خدمة المجتمع- بحجة أن هناك جهات رسمية أو لجان شعبية تقوم بأدوارها في ميادين محددة .. كل ذلك عقوق اجتماعي لأن الواجب على من أخذ أن يُعطي ولو قليلاً.
إن الاسراف في انتقاد كثيراً من مجالات التنمية الشاملة بحجة عدم الاستفادة من بعض جوانبها أو عدم انطباق بعض مقاصدها على بعض الفئات فذلك أيضا عقوقا اجتماعيا بارزا.
ان عدم الاحساس بمشاعر الآخرين ليدل ذلك بكل صراحة القول وأمانة الحديث عقوقا تشتكي منه القلوب المفطورة على الحب والعطاء، وتشتكي منه الأفئدة التي غدت مرتعا خصبا لكل نبضة قلب يحمل حب الآخرين والاحساس بآلامهم وآمالهم فليس من الفطرة السوية أن يعمد أحدهم الى الاسفاف بخواطر الأسوياء.
إن مَن يتمسك برأيه في قضية معينة أياً كانت القضية، دون أن يجعل الحوار منهجاً وأسلوباً في معالجة أوار تلك القضية ، أو مَن يزعم أنه لايُري القوم إلا مايرى؛ فإنه بلاشك قد انحدر في مزالق العقوق الاجتماعي لأنه في نهاية المطاف سيخسر نفسه والآخرين.
من العقوق الاجتماعي ذلك الشعور السلبي الذي يعتنق حياة الكثيرين للأسف بقول أحدهم مالي وللآخرين طالما أن زادي ومائي متوفران.
ولست هنا انظر الى واجب الزكاة او الصدقة فتلك أيضا لها فلسفات أخرى لكنني أنظر الى تلك الشخصية الغير سوية وهي تمارس أساليب الاستعلاء على حقيقة الحياة التي يجب أن نكون عليها وكأنه حين يغرد خارج السرب انه سيعيش الدهر كله .. وأقصد من هذا لماذا هذا العقوق الاجتماعي تجاه البيئة تجاه الأقارب تجاه الأصدقاء تجاه دمعة المظلوم وزفرة المحروم !!!!
ان من العقوق الاجتماعي عدم الاقدام على مساعدة بعض الآخرين بحجة انهم سينحرجون.
كثيرة هي مظاهر العقوق الاجتماعي لكنني آثرت الاختصار كي لا يملّ من قراءة كلماتي القاريء الكريم فأكون عاقاً اجتماعياً وانا لست أدري.
وكتبه
الدكتور عبدالرحمن بن علي الغامدي
لجنة إصلاح ذات البين بإمارة مكة المكرمة
١٤٣٩/٩/٥
مقالات سابقة للكاتب