حدث أني استفدت من دورتين كانت حول قراءة الشخصيات من صفحة خط أيديهم ، وكان المدرب شاباً يحمل شهادة الدكتوراة ، يعتمد على أسلوب التفاعل والإثارة والقرب من نفسيات المتدربين بإظهاره البساطة حينا ، فيذكر مما مر به من مواقف منه مضحكة عليه ، وحينا يمازحهم منتقياً مايمزح به لكون أعمارهم مختلفة ، ويوقر الكبار منهم كثيراً ، وعجبت من قدراته هذه ، التي يظنها الكثير من الناس أنها من السهولة بمكان حتى أنهم استهانوا بها ففقدوها .
ولا أريد إسهاباً أكثر فأصرف اتجاه تفكيركم عن محور ما أريد نقله إليكم في مقالتي هذه ، وهو أشبه بالقصة إن لم يكن قصة… – لقد كان من الأنشطة التدريبية أن نكتب بخط أيدينا ونحلل لبعضنا ثم نسلمه للمدرب ، فقلت ممازحاً له كما هو يمازحنا : بهذا – يادكتور -ستتمكن من تحليل شخصياتنا جميعاً دون إذن منا ؟
فابتسم وقال :
منذ دخولكم القاعة أول مرة ، نظرت إليكم واحداً واحداً فحللت شخصياتكم !
فبادلته الابتسامة ولكني وضعت إجابته هذه في قبضة ذاكرتي ، وقد تجيش في داخلي أمر ما ، وقررت أن أقتنص فرصة خلوة به لأضعه في زاوية إحراج تحقق لي أكثر من فائدة ، مع احترامي له ، وربما كان في نفسي رحمة به من موقف أمام الجميع غير جيد له !
فاقتنصت الفرصة حين التوقف لصلاة المغرب فسألته :
لقد قلت أنك حللت شخصياتنا عند أول مرآك لنا ، فما وجدت في شخصيتي؟
فكان أكثر رونقاً ، فقال : أنت وأنت وأنت
يذكرصفات كلنا يحبها في نفسه !
شكرته وقلت لا أريد هذا فمهما يكن من الجميل فينا فإننا لا نسلم من مناقضه ، قل لي مما ينبغي أن أصلحه أو أدعه ، فأحسست تحرجه ، فقلت قل ماشئت وقد طلبت منك فلا حرج عليك..
فقال : أنت تريد إصلاح الناس كلهم!
فعلتني دهشة الاستغراب جدا !!!
أهذا عيب ينبغي التخلص منه؟
قال نعم.
لأنك تشغل نفسك ، وتتعب قلبك، وتبذل من طاقتك فيما لا جدوى منه ، -وقد صدق – فالناس أجناس في تفكيرهم وقناعاتهم ، وأسوأهم من لا يعرف للناس حقا ولا قدراً ، ولاتهمه إلا نفسه ، قال صلى الله عليه وسلم (يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه).
وكأنما أعطاني هذا المدرب درساً خصوصياً إضافة لما كان في قاعةالتدريب ، وقلت في نفسي سأنظر في تصرفاتي الليلة مع الناس وأين ماوصفني به منها ؟ وانتهى التدريب وخرجت ، وما من تصرف مع الناس إلا وحكمته بمعيار ( أنت تريد أن تصلح الناس كلهم) حتى ردهم التحية علي كان من ضمن مادخل في التحكيم تلك الليلة ، حتى إذ وقفت بسيارتي عند دخول طريق ، في احترام لمن في الطريق ، والتزام بنظام المرور ، ورأيت من وطئ بسيارته الرصيف وقفز في الطريق ، ونسيت ماقال المدرب لحظتها وإذا بآخر يقتدي به !
وإذا بالثالث جواري يستعد للفعلة مثلهم ، فكلمته واعظاً، ليلتزم بالنظام ، وقد طلبت منه أن يفتح زجاج باب سيارته ليسمعني ، فو الله إنه سمعني وما زاد على أن هز رأسه وانطلق من فوق الرصيف إلى الطريق وبقيت واقفاً أنا زمناً، ثم ذكرت قول المدرب ( أنه من عيوبي أني أريد اصلاح الناس كلهم) .
ليس هذا نسجاً من خيالي بل هو من الواقع فعلاً .
أحمد مهنا الصحفي
مقالات سابقة للكاتب