الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبدالله وعلى آله وصوحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين ، وبعد ..
بناء على طلب صحيفة غران الموقرة من رئيس تحريرها الاخ العزيز أحمد الصحفي المشاركة بمقال يلخص تجربتك في الحياة ونقل الخبرات للمجمتع عبر “يوميات متقاعد” والتي خصصت الصحيفة لها ركناً أسبوعياً من صفحاتها ، واستجابة لذلك ومشاركة في نقل ما مر بي من تجارب أذكرها في وقفات لعل القارئ او المطلع يجد مايفيده ويستر مالا فائدة فيه وينصح لي مايفيدني.
المرحلة الأولى :
بدأت دراستي الإبتدائية بعيدا عن الوالدين لعدم وجود مدرسة آنذاك بقريتي والتحقت بمدرسة زيد بن ثابت الأنصاري بقرية الجمعة ، وكانت هذا البدايات وماتحمله من مشاق البعد عن الوالدين وغربة الطفولة والسير على الأقدام مسافات طويلة خاصة يوم الإجازة في الذهاب إلى أهلي وقريتي والرجوع إلى مكان دراستي مايقارب العشرين كيلا أو يزيد قليلا ، وغيرها من الظروف المصاحبة ، الا أن هذه المرحلة تحمل ذكريات جميلة جدا استفدت منها وأشعر بتأثيرها في حياتي ، ومنها :
اولاً : البيت الذي نسكنه أثناء الدراسة لعمتي رحمها الله ، وكانت أرملة غنية نفس كريمة يد صاحبة بذل، لقد كانت تؤي أكثر من عشرة طلاب، جميعهم يسكنون عندها وتطعمهم وتشرف عليهم لسنوات عديدة ، وليس لديها سوى شويهات تطعمها من القرية وتسقيها من عين الجمعه ، نشرب من حليبها ولبنها ، مع أن بعض هؤلاء لاتر بطهم بها قرابة ولا نسب.
وبعد صلاة الجمعة تستقبل تلك الكريمة ضيوفها الذين قدموا من بعيد لأداء صلاة الجمعة في مسجد القرية ، وتجهز لهم طعام الغداء على ما تيسر. وكان يجتمع عليه خلق كثير..
بقيت عندها حتى وصلت إلى الصف الخامس حيث تم لنا تأمين وسيلة نقل تنقلنا من قريتنا الى المدرسة ، حتى تخرجت من المرحلة الإبتدائية.
وقفات هذه المرحلة :
١. تربية الأبناء على الإعتماد على النفس من أساليب التربية الجادة.
٢. التعليم بالممارسة والتدريب له أثر كبير ، وأذكر انني كتبت رسالة إلى والدي وانا في الصف الثاني بدأتها .. إلى حضرة المكرم الأخ سلطان… وكانت مثار إعجاب منه وجيرانه
٢. البيئة الإجتماعية التي ينشأ بها الطفل لها أثر كبير في سلوكه خاصة الجار ، ولقد كنت أرى جارا لنا يتوكأ على عصاه ذهابا وإيابا إلى المسجد في كل الصلوات ، وغيره من كبار السن ، وأصحاب المحلات التجارية رحمهمم الله أهل السماحة والعطف والكلمة الطيبة ، وجيران كرام يبادلوننا الهدايا وكنا نسميها (الفراحة ).
٣. الكريم لايتصنع الكرم بل هو جبلة يهبها الله لمن يشاء كما وهب تلك المراة الكريمة (عمتي) جزاها الله خير الجزاء ، عاشت كريمة وماتت كريمة .
٤. الطفل يسجل في ذاكرته المواقف صوتا وصورة ، فلا لازلت اتذكرها رغم مضي زمن طويل.
المرحلة الثانية :
بعد تخرجي من المرحلة الإبتدائية أكرمني والدي رحمه الله بسيارة خاصة ، وواصلت دراستي وكنت أتحمل مسؤلية البيت والإشراف على إخوتي ، وأساعد والدي رحمه الله أيام الإجازة في مكة المكرمة بجوار الحرم حيث كان دكانه ، وتمرست البيع والشراء واختلطت بالحجاج والمعتمرين على اختلاف جنسياتهم حتى أصبحت أتكلم ببعض لغاتهم ، وإستفدت منهم كثيراً ، وتعلمت كثيرا ممن يمارسون البيع والشراء على اختلاف أعمارهم.
وفي آخر هذه المرحلة قرر والدي أن يزوجني وليس أمامي الا السمع والطاعة ، فحدد موعد زواجي وكان في وسط الإختبارات للصف الثالث المتوسط (التوجيهي) حيث الاختبارات تأتي من الوزارة موحدة لجميع طلاب المملكة و يحسب لها حسابات كثيرة ، وكان نقطة تحد كبيرة ولكن الله وفقني واجتزتها بجدارة وتفوق والحمد لله ..
وقفات هذه المرحلة :
١. إعطاء الثقة للأبناء منهج تربوي ، وقد نجح فيه كثير من الآباء في الزمن الماضي
٢. الإختلاط بالناس يعلمك أشياء كثيرة لا تتعلمها في المدرسة
٣. بركة البلد الحرام في العبادة والرزق والأخلاق حري بالبحث عنها ، فقد كان والدي رحمه الله يصلي أغلب الصلوات في الحرم.
٤. رأيت في ضيوف الرحمن عباداً ودعاة ومنهم من يحمل والده أو امه على ظهره ، ومنفقين وأهل فضل وإحسان
٥. الزواج المبكر له فوائد ومزايا عظيمة
المرحلة الثالثة :
وكانت من أشق مراحل حياتي. فبعد زواجي بثلاثة أشهر توفي والدي رحمه الله جوار دكانه الذي أمضي فيه مايقارب أربعين عاماً ، وقدكنت بصحبته رحمه الله في السابع من ذي الحجة من عام ١٤٠٢للهجرة. وقد كان هذا بمثابة عام الحزن بالنسبة لي ..
عدت بعد أيام الى الدكان وإذا بمالكه قد رفع إيجاره كثيرا لا طاقة لي به، وكنت أيضاً بين أمرين، إما الدكان او مواصلة الدراسة ، فاستخرت الله واخترت الدراسة والتحقت بمعهد إعداد المعلمين.
هذه المرحلة كانت قاسية في مسؤليتها .. أخوة أيتام ، وبيت ، ودراسة … ولكن الله أكرمني بصحبة لن أنس معروفها أعانتني ، و صاحب دكان أمهلني حتى تخرجت معلما ، وقد توفي رحمه الله رحمة واسعه.. ووفقني ربي حتى أتممت دراستي ، بتفوق وتخرجت معلما.
وقفات هذه المرحلة :
١. الأم صمام أمان بعد الله فقد كان لدعائها أثرا ولرأيها إعتبارا ، وما إن أطلب دعاءها في شئ او رضاها إلا و أجد تيسيرا من الله وتفريجا لهمي.
٢. تعرف إلى الله وقت الرخاء يعرفك في وقت الشدة.
٣. رب اخ لك لم تلده أمك.
٤. لا تنتظر المحتاجين ان يمدوا أيديهم إليك ، فالكثير منهم متعفف.
٥. إنظار المعسر من أعظم المعروف.
المرحلة الرابعة :
وهي مرحلة الحياة العملية .. فبعد تخرجي من معهد المعلمين عينت معلما في المرحلة الإبتدائية في جنوب جدة ، وفي نفس العام رزقت بابني الأكبر عبدالجواد. ، ووفقني ربي بزملاء وإخوة في المدرسة
وخاصة مديرها الفاضل الذي حببني في هذه المهنة بتعامله الراقي وحسن توجيهه وسلامة صدره وعدله ، وعملت معه ثلاثة وعشرين عاماً معلما ومرشدا طلابيا ، وكانت من أجمل أيام عمري.
وقد كانت المدرسة تضم عددا كبيرا من أبناء الأسر المحتاجة والأيتام ، فكونا نحن منسوبي المدرسة فريقا متجانسا جعل من هذه المدرسة مكانا لكل الخير ، من رعاية الأسر المحتاجة وكفالة الأيتام ، والصلح بين المتخاصمين. وكنا ننظم لقاءآت تربوية ومسابقات أسرية، و نبتكر طرق وأساليب إبداعية في التدريس والتعامل الحسن مع المجتمع مما جعل الإقبال على المدرسة ملفتا وظاهرا.
مرت بنا عبر هذه الأعوام الكثير من العقبات التي تجاوزها فريق العمل بالعزيمة والإصرار .
وأثناء التدريس تهيأت لي فرصة إكمال الدراسة بجامعة الملك عبدالعزيز انتسابا ، ثم الدبلوم العام في التربية بجامعة أم القرى.
مرت بي عقبة ضيق الوقت والمواءمة بين الدراسة والوظيفة ، ولكني وجدت ان العزم أخو الحزم كمايقولون ، وتلقيت دعما معنويا كبيرا من الزملاء في المدرسة وخاصة مديرها الفاضل.
أكملت مايقارب الثلاثين عاما بنفس المدرسة مع قادة أجلاء وزملاء أفاضل ، حتى رأيت أن الوقت قد حان للتغيير والبدء في مجالات أوسع فقررت التقاعد المبكر ، وقد كان قراراِ صائباً ولله الحمد والمنة.
وقفات مع هذه المرحلة :
١. رئيس الدائرة ومديرها له أثر كبير في صقل المواهب وتهيئة بييئة العمل ، وتكوين فريق عمل ناجح.
٢. العمل الجماعي يورث القوة ويحقق الهدف
٢. صدق من قال : قم للمعلم ووفه التبجيلا …. كاد المعلم ان يكون رسولا
٣. لقد رايت من بعض الزملاء أبا حنونا ومربيا جادا يحمل رسالة عظيمة
٤. بقائي في هذه المدرسة المدة الطويلة جعلني أرى ثمار جهدي من خلال تسجيل أبناء طلابي في نفس المدرسة
٥. كلما تذكرت فضل العلم وتعليمه ، لمت نفسي على تقصيري في تلك المدة ، والتي ذهبت كأنها ساعة..
المرحلة الخامسة :
مرحلة التقاعد المبكر ..فمن نعمة الله علي ان تهيأت لي فرصا للعمل الخيري والمشاركة فيه ، ورأيت نماذجا من الأفاضل يقضون الأوقات الطويلة من حياتهم لإسعاد الناس وخدمتهم ، وشاركت معهم مشاركة المقل و وجدت السعادة والسرور في تلك الأعمال والتي أسأل الله ان يتقبلها…
ومرحلة التقاعد فرصة للمراجعة وترتيب الأولويات والتزود من الخير والإقبال على الله ، ومن له أبوين فليلازمهما فإنهما من أبواب الجنة.
وقفات مع هذه المرحلة :
١. أجمل مايشعربه الإنسان بعد تقاعده حريته في وقته ليعمل مايشاء وقت مايشاء.
٢. الإقبال على الله واعظمه تلاوة كتابه والعناية به وأعمال الخير الأخرى
٣. تعلمت أن الأماني لا تتحقق بالدعة والسكون بل تحتاج إلى عمل دؤوب وتوكل على الله.
٤.ماخاب من استخار ولاندم من استشار، اجعلها قاعدة في حياتك.
٥. التغافل طريق إلى السيادة وكسب القلوب
٦. إنزال الناس منازلهم خلق عظيم
٧. إن كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة …. فإن فساد الرأي أن تترددا ، كثير من المشاريع الناجحة التي رايتها كانت عبارة عن فكرة تم بدا أصحابها بتنفيذها بعزيمة صادقة وبلا تردد .
٨. مهما قدمت من عمل خيز احتسبه عندالله ولا تنظر إلى جزاء أو شكر من أحد. قد يمل الإنسان مع مرور الوقت ، ومايلقاه من عقبات ، ولكن حينما يؤمن بأن الجزاء من الكريم سبحانه وتعالى يزهد في ثناء وشكر الناس
٩. لا تستكثر على إخوانك المسلمين شيئا فإن غيرك بذل عمره وماله لله.
١٠ جلوسك مع كبار السن يثري خبراتك ، وجلوسك مع الأطفال يفسر لك معنى البراءة ، وصفو الحياة ، فمهما بلغت من العلم والمكانة فإنك تحتاج إلى خبرات غيرك المتنوعة.
١١. عنايتك بأسرتك وأقربائك وقود للنجاح في هذه الحياة ، والأقربون أولى بالمعروف …
١١. أكرمني ربي بأخوين شقيقين هما جناحي الذين أحلق بهما ، وأبناء بررة سعدت ببرهم وخدمتهم ، وابناء عمومة تاج على رأسي ، وربع وجيران وأصدقاء لهم ود وتقدير ، ومواقف طيبة في حياتي ..
حفظ الله الجميع.
هذا ماجادت به ذاكرتي .. سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك..
رجاء الله السلمي