رسائل مبتعث – ٢

الرسالة الثانية

 بدأت الطائرة في النزول قليلاً قليلاً ومعها بدأت أذناي تفقدان السمع مؤقتاً من جراء تغير الضغط الجوي ، ثم ما هي إلا لحظات وقد هبطنا على أرض المطاروتوقفت الطائرة فهنأنا أحد الملاحين بسلامة الوصول تلاه صوتاً آخر لأحد المضيفات بلغة إنجليزية لم أعرف منها إلا كلمة “ ثانكيو” تحسرت على نفسي وتلاعبت فئران في عبي وليس فاراً واحداً ، كيف أستطيع أن أفهم ومتى يمكنني أن أتعلم كيف أتكلم هذه اللغة بنفس الطلاقة التي سمعتها ، هكذا هيء لي بأنها طلاقة فربما كانت عكس ذلك ، نظرت إلى راشد فأشار لي بأن أنتظر حتى يخرج الذين في المقاعد الأمامية ، جاء دورنا في الخروج حملت حقيبتي وخرجت من باب الطائرة مودعاً المضيف الذي وقف بنفس الإبتسامة التي أستقبلنا بهامع قليل من الإجهاد الذي كان واضحاً على محياه ، ثم دخلت في ممر طويل أوصلنا إلى صالة القدوم …. تفاجأت بأن الصالة كبيرة وبها عدد كبير من الموظفين يجلسون وكأنهم صقور خلف أجهزتهم الإلكترونية ، وفي الجانب الآخر مجموعة يسيرون في الصالةيوجهون الناس بصوت عالي فيه نبرة جد لا يخالطها هزل أو إستعلاء ، عرفت ذلك من تعابير وجوههم وما قاله لي راشد ، وقفت خلف راشد في طابور طويل يتحرك بسرعة تُقربنا من الموظفين الذي سيختمون جوازاتنا ، أرتعدت خوفاً وأنا أرى كلباً كبيراً “أعزكم الله” يتقدم نحوي برفقة أحد موظفي آمن المطار ، همس راشد بصوت مسموع “خليك طبيعي” هذه إجراءات رسمية لا خوف منها ، وصلنا إلى خط أصفر وأشار لنا أحد الموظفين بأن نقف هنا ثم جاء آخر ووجه راشد للذهاب إلى موظف مفصحاً عن رقم الموظف فتكلم معه راشد عرفت فيما بعد أن راشد قال له عني بأنني معه ولا أتقن اللغة الإنجليزية ، وقفنا أما الموظف أنا وراشد فأخذ جوازي وراشد يترجم لي ، بأن أنظر في الكاميرا ، بأن أضع أصابع يدي على عدسة جهاز تسجيل البصمة ثم بعد أن أطلع على الـ أي تونتي وعرف أنني قدمت للدراسة إبتسم ورحب بي ثم ناولني جوازي فتقدمت خطوات أنتظر راشد ، عرفت من راشد بعدها أنه يُصرح لي دخول أمريكا قبل بدء دراسة بثلاثين يوماً أو أقل وليس قبل ذلك …. توجهنا إلى صالة إستلام الحقائب بعد أن أخذنا كل واحد عربة لحمل الحقائب ثم توجهنا بعد إستلام حقائبنا إلى صالة القدوم، مررنا خلالها بموظف آخر أخذ منا أوراق الإفصاح ، ثم تكلم مع راشد شيئاً لم أفهمه ، عرفت فيما بعد أنه ساله هل لديكم شيء للإفصاح عنه فأجابه راشد بالنفي ….. كان هذا أول درس لي إذ تذكرت كيف أنني وبعض الأصدقاء كنا نتدر على الأجانب الذي يعملون في قريتنا ونستهزيء بهم بأنهم لا يفهمون ونصفهم بأوصاف لا تليق ، عرفت الآن معنى أن تكون غريباً ، وتذكرت المثل القائل “الغريب أعمي لو كان بصيراً” ، أنا هنا مثلي مثل أي أجنبي يطأ بلادنا ولا يعرف اللغة العربية ، أستغفرت ربي على ما بدر مني في الماضي وشكرته على تسخير راشد لي.

وصلنا إلى صالة السفر الداخلي وبعد تقديم تذاكرنا إلى إحدى الموظفات أستلمنا بطاقة الصعود وأسرعنا إلى صالة الإنتظار ، سرنا طويلاً وكانت أطول مسافة أمشيها في حياتي وأنا أحمل حقيبة على ظهري ، كان راشد يسير بخطىً واثقة وأنا أكاد أصطدم بكل شخص أقابله لتشتت نظري فيما حولي ، نبهني راشد ثم نهرني فعدت إلى نفسي وتمسكت بيد راشد ، فنزع يده مني بقوة أستغربت منه تصرفه بهذا الشكل ، فقال لي إن الرجال هنا لا يمسكون أيدي بعضهم لأن ذلك يعتبر دليل على الشذوذ والعياذ بالله ، أرتعدت ثم أبتعدت عن راشد قليلاً ، أختلست النظر إليه فاذا هو يتبسم فأستخلصت ما جال بخاطره حسب فهمي ، تذكرت القول المنسوب إلى علي بن ابي طالب كرم الله وجهه :

تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى *** وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـد

تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ         ***   وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ

فمنذ أن ودعت أهلي وأنا أتعلم ، وهناك المزيد بإذن الله …. وصلنا إلى موظفين آخرين ومررنا بتفتيش آخر وإنما مع بعض الإختلاف ، فهنا لا بد أن يدخل المسافر من خلال جهاز بعد أن يزيل كل الأشياء المعدنية وأي شيء في جيوبه حتى وإن كانت ورقة ثم ينزع حذاءه ويضعها جميعها في صناديق مماثلة لما رأيته في مطار المغادرة على أن يكون جهاز الحاسب المحمول في صندوق منفرد وفي بعض الحالات يطلبون أن يكون بدون شنطة ،أما الجهاز الذي دخلت فيه هنا لابد أن أقف في داخله رافعاً يدي فوق رأسي ، حابساً أنفاسي وكأنني في جهاز تصوير الاشعة ، لأنه هو كذلك فعلاً ولكن ليس كما قيل لي قبل السفر بأنه يبين كل تفاصيل الجسم ، فالجهاز كما أخبرني راشد يبحث فقط عن أي معادن أو أشياء غريبة في الجسم، مررنا من الجهاز ووصلنا إلى بوابة الصعود للطائرة بعد أن مررت بأكثر من فجعة من الكلاب المحمولة والكلاب التي يقودها أصحابها أو هي تقودهم ، قال لي راشد هذا شيء طبيعي هنا ، ركز على ما يهمك فقط ….. جاء وقت الصعود للطائرة فصعدنا وإنما هذه المرة جلسنا في مقعدين متجاورين ، قال لي رفيق رحلتي بأن المدة حوالي ساعتين إلى المحطة النهائية لسفرنا ، لم أسكت خلال الرحلة حيث أمطرت راشداً بسيل من الأسئلة ، وكان يرد على أسئلتي بكل رحابة صدر ، تذكرت أمي ودعاءها لي حيث قالت بلهجتها الصافية “الله يسهل لك ياوليدي الطريق والرفيق” ، وبحمد الله تسهل الطريق والرفيق…. وكذلك عرفت فضل العلم مما رأيته من حسن أخلاق راشد وحكمته في تصرفه خلال رحلتنا وإتساع أفقه وعلمه ، حدثني كيف أنه قدم ولم يكن يعرف من اللغة الإنجليزية إلا الشيء القليل وإنما بعد حوالي ثلاثة أشهر تعلم أشياء كثيرة وأيضاً أخبرني كيف أن من سبقوه في بلد الإبتعاث كانوا بمثابة أخوان له أرشدوه وساعدوه مثلما هو يفعل معي الآن وربما أكثر …. مرت الساعتين بسرعة وسمعت صوت النداء الداخلي للطائرة يعلمنا بقرب الهبوط كما أفهمني راشد ، نزلنا بسلام والحمد لله ثم أستلمنا حقائبنا ، أخرج راشد جواله وبعد أن ضغط إزرار التشغيل ، أتصل على شخص تكلم معه باللغة العربية ، ثم توجهنا إلى خارج المطار وقد قاربت الشمس على الرحيل وبدأ الظلام يرخي ستائره مؤذناً ببدء ليلتي الأولى في بلد الغربة ، وصلنا إلى مواقف السيارات حيث كان هناك أحد أصدقاء راشد بإنتظارنا في سيارته ، عرفني راشد على صديقه قائلاً ، هذا “صالح” وهو من أستقبلني عندما وصلت لأول مرة لبدء دراسة الماجستير حيث كان يدرس البكالوريوس في إدارة الأعمال وهو الآن يدرس الماجستير ، توقفنا في الطريق وأشتري لي راشد ماءً وعصيرات وبعض البسكويت ثم أوصلني إلى الفندق ولم يتركني إلا بعد أن أطمأن أنني وصلت غرفتي ، وعدني بأن يأتيني في الصباح ، لم أكد أخلع ملابس السفر وأتوضاً وأصلي ما فاتني من فروض حتى دخلت في نوم عميق لم أصحوا إلا على طرق الباب ، لم أدري ما أقول لمن يطرق بابي وإنما بعد تردد فتحته فوجدت  راشداً واقفاً أمامي ، قال لي بلهجة أخوية مرحة وكأنني أعرفه منذ سنين ، يا أخي قوم قتلت النوم إنت ووجهك هذا ، إنتظرني حتى أستعديت للخروج فعرفت أنني نمت أكثر من خمسة عشر ساعة متواصلة ، وعند باب الفندق كان صالحاً بأنتظارنا…. كان الوقت حوالي التاسعة والنصف صباحاً ، قال لي راشد شد حيلك ورانا مشاوير كثيرة لازم ننهيها اليوم ترى لابدأت دراستي ما ني فاضي لك، كل واحد ينشغل في نفسه…..  أودعك الآن وإلى لقاء في رسالة أخرى.

للإطلاع علي الحلقات السابقة : اضغط هنا 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *