أشارك اليوم قراء هذه الصحيفة الغراء بعضاً من ما مررنا به في معترك الحياة التي خضنا عباب غمارها، ملتحقاً في ذلك بمن سبقني إلى نثر الدرر الثمينة من تجارب وعبر أُستخلصت من سنين العمر، علها تستهوي متبضعي هذه الزاوية المميزة، ويجدوا فيها الفريد المفيد.
فأقول مستعيناً بالله: إن الحديث عن الذكريات ذو شجون، فالإنسان في حياته يمر بمراحل ومحطات يتنقل بينها ذهاباً بلا عودة، فيبدأ بمرحلة الدراسة، ثم تعقبها الوظيفة، ثم ينتهي به المطاف بحط الرحال في رياض التقاعد ، ثلاث مراحل شركاء الناس فيها.
ولأحدثكم إبتداءً بمرحلة الدراسة، حيث درست المرحلة الابتدائية في أول مدرسة أفتتحت بغران عام ١٣٨٠هـ، وهي مدرسة موسى بن نصير الابتدائية، وكنت من أوائل من التحق بها، وقد تخرجت منها بتفوق ولله الحمد في عام ١٣٨٥هـ. ولم يكن حينها مدرسة متوسطة إلا في رابغ، فقررت التوقف عن الدراسة والبحث عن عمل؛ وذلك لعدم استطاعة والدي رحمه الله الإنفاق على تعليمي، وعلم جدي محمد صالح رحمه الله بهذا الأمر، فما كان منه إلا أن تكفل بنفقات الدراسة، وحثني على إكمال تعليمي.
وهنا إسمح لي أيها القاريء الكريم بالتوقف قليلاً عند مساعدة جدي رحمه الله؛ لأهمس في أذن كل كبير أسرة بأن لا يكف عن السؤال وتفقد الأحوال لأفراد أسرته، وتقديم يد العون لهم.
دعوني أعود بكم مرة أخرى إلى مرحلة الدراسة ومحطةٌ جديدةٌ فيها.
بعد أن حُلت المشكلة المادية بزغت للوجود مشكلة عاطفية كبرى متمثلة في رفض أمي رحمها الله ذهابي إلى رابغ، تلك المدينة الساحلية التي ذاع حينها خبر إبتلاع بحرها أحد أبناء خليص “رحمه الله وأدخله فسيح جناته”، فخشيت والدتي رحمها الله على صغيرها المصير نفسه، ولم تسمح بالذهاب إلا بعد تدخل أفراد من الأسرة قاموا بإقناعها، فأخذت عليَّ “رحمها الله” العهود والمواثيق بأن لا تبتل قدماي بماء البحر، فكان لها ذلك، فبحمد الله وتوفيقه التحقت بدراسة المتوسطة في رابغ عام ١٣٨٦هـ وتخرجت منها دون أن تبتل قدماي بمياه بحر تلك المدينة.
بعد إكمال مرحلة المتوسطة إنتقلت إلى جدة وبدأت مرحلة جديدة في رحلة الدراسة، فالتحقت بمعهد إعداد المعلمين الثانوي، وتخرجت منه عام ١٣٩٢هـ. وبهذا أكون قد أهلت نفسي وأعدتها إلى إستقبال مرحلة جديدة في حياتي، ألا وهي مرحلة العمل.
ها أنا ذا أستلم خطاب تعييني معلماً في مسقط رأسي ومبتدأ تعليمي، إنها مدرسة موسى بن نصير الابتدائية بغران عام ١٣٩٢هـ، لأكون بذلك أول معلم وموظف من أبناء غران، وأذكر جيداً أول راتب تقاضيته وكان قدره ٨٢٥ ريال، كان كافياً لأعيل أسرتي وأساعد والدي رحمه الله.
وأنا على رأس العمل، إستطعت بعون الله وتوفيقه الحصول على شهادة البكالوريوس من جامعة الملك عبدالعزيز في تخصص علم إجتماع عام ١٣٩٨هـ. وفي عام ١٤١٩هـ حصلت على دبلوم مديري المدارس.
عملت معلماً لسبع سنوات، تلتها خمس سنوات وكيلاً، ثم أعقبتها ٢٧ سنة مديراً، مكملاً بذلك ٣٩ سنة في مهنة التعليم التي وجدت فيها المتعة العملية والراحة النفسية لما لمسته من إقبال الطلاب على العلم، وإحترام للمعلم، وتعاون أولياء الأمور مع المدرسة، كل ذلك وأكثر من ما يشتكي من فقده كثير من المعلمين هذه الأيام، بل أن بعضهم يفر إلى التقاعد المبكر طلباً للنجاة مما يعانيه ويكابده، والأسباب كثيره لا يتسع المقام لسردها.
قضيت في مهنة التعليم ٣٩ سنة، كان تسرب الأيام فيها أسرع من تسرب حبات الرمل من بين أصابع حامله. مررت فيها بالعديد من المواقف والأحداث العالقة بالذهن حتى الساعة. وسأذكر لك أيها القاريء العزيز ثلاثة مواقف من غريب ما مضى.
الموقف الأول:
في أحد الأيام، وقبل أن تكمل الشمس نسجها لخيوط الصباح، وأثناء إشرافي على دخول الطلاب قبل مجيء المعلمين، دخلت سيارة مسرعة مع بوابة المدرسة يقودها صاحبها في تهور وجنون كادت أن تحدث كارثة على الطلاب المتواجدين في فناء المدرسة، ونزل صاحبها وقد بلغ منه الهلع كل مبلغ، وأتجه نحوي راكضاً وهو يصرخ: أنقذني أنقذني، فقلت له وقد تملكتني الدهشة: من أي شيء يا رجل؟!!! فأجابني: أن هناك سيارتين تطاردني منذ خروجي من المدينة، وما تركتني حتى دخلت هذا المخطط، فهما هناك تنتظراني ليعتدي علي أصحابها، فقلت له هون على نفسك لن يمسوك بسوء إن شاء الله، وأخذته بيده وأدخلته المكتب وهدأت من روعه، وبعد سماع قصته علمت أنه مصاب بأوهام نتيجة تعاطيه للمخدرات، كما أخبرني في سياق حديثه معي أنه مبتلى بالمخدرات، عندها إضطررت لعلاج الوهم بالوهم، فقلت له إذهب وتوضأ وصلي صلاة الفجر وأنا سأذهب إلى شيخ لديه علم بالرقية وأعود إليك، وأوهمته أني خارج، وبعد أن فرغ من صلاته جلس ينتظرني في المكتب، فقدمت عليه وأجزلت له النصح والإرشاد بأن يترك طريق الهلاك ويتجنب المخدرات ليحفظ دينه وعقله، وأعطيته ورقة قلت له إنها تحجبك عنهم بإذن الله فلا يرونك حتى لو كنت تراهم!، وأشترطت عليه أن لا يفتح الورقة، ثم سألت الله له السلامة ودعوت له بخير، فذهب في أمان الله هاديء البال مرتاح النفس. وفي القصة ما يملأ القلب من الأسى على هؤلاء الشباب الذين تسلط أعداؤهم عليهم فأوردوهم موارد الردى.
الموقف الثاني:
في هذا الموقف أحدثكم عن أحد زملائي المعلمين، الذي كان من المحافظين على الحضور المبكر والإشراف الصباحي على الطابور، وفجأة بدأ في التأخر حتى وصل به الحال إلى عدم المشاركة في الإشراف على الطابور نهائياً، وكنت بداية الأمر أعامله حسب ما يقتضيه النظام بقفل سجل الحضور في الوقت المعتاد والمساءلة للمتأخر، فإذا به يكتب إفادة متكررة ( ظروف أسرية)، فعمدت إلى جمع دقائق تأخره حتى وصلت إلى ما قبل الحسم، فقلت في نفسي لا بد من جلسة مصارحة مع الزميل ومعرفة ماهي ظروفه الأسرية لعلي أستطيع تقديم المساعدة، فأخبرني الزميل بظرفه قائلاً: والدي طاعن في السن ومريض، وأنا من أقوم بتقديم الرعاية له كل يوم من طعام ونظافة وتغيير ملابس وإعطاء الدواء، فعملت بروح النظام وقدرت ظرفه بتعديل جدوله بحيث لا تكون عليه حصة أولى قدر الإمكان.
الموقف الثالث:
هنا أخبركم عن موقف أحد الزملاء المعلمين مع طالب من طلابه، إذ لاحظ المعلم غياب الطالب المتكرر، فسأله أكثر من مره عن غيابه والطالب في كل مرة يعتذر بالمرض تارة وبترك الدراسة تارة أخرى، فألح عليه المعلم ذات مرة عن السبب الحقيقي وراء غيابه، فأخبره الطالب بأنه يغيب في اليوم الذي لا يجد فيه مصروفه اليومي، وأن والده يعمل خارج القرية ولا يأتي في الشهر إلا مرة واحدة يجلس فيها يومين ويرجع من حيث أتى. فذهب المعلم إلى صاحب البقالة المجاورة للمدرسة، حيث لم يكن وقتها مقاصف داخلية، وقال لصاحب البقالة: إذا جاءك الطالب الفلاني أخبره بأن والده قد جاءك وأعطاك مصروفه اليومي وقدره كذا، وأنا – أي المعلم- نهاية كل شهر أدفع لك المبلغ، نجحت الخطة وإنتظم الولد في دراسته وصار من المتفوقين. فهكذا يكون المعلم الناجح معلماً ومربياً وأباً للطالب في نفس الوقت.
وقبل أن أودعكم أود التذكير بأن التقاعد قد سنه نظام العمل، ليحل شخصٌ محل آخر، ولكنه أبداً ليس نهاية مطاف العطاء في ميادين أخرى، فكثيراً نشاهد من زاد نشاطه وتضاعف عطاؤه بعد التقاعد، وكأنه كان مكبلاً بالوظيفة.
أما محدثكم فقد سهل الله له العمل في مكتب غران الفرعي لجمعية البر الخيرية محتسباً منذ أن كان في ربيع العمر وحتى الآن ولله الحمد.
كما يسر الله لي المشاركة في الإمامة والدعوة والإرشاد وجمعية تحفيظ القرآن الكريم، أسأل الله الإخلاص والقبول، وأن يختم بالصالحات أعمالنا وبالخيرات آجالنا. وصل الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.