خليص محافظة جميلة هادئة تحظى ببرّ أبنائها منذ نشأتها وحتّى يومنا هذا .. ومن أبرّ ابنائها الشّيخ (مساعد عبد الرّحيم المغربي) وهو شاعر فذّ حكيم ذكيّ شجاع صاحب فكر نيّر ومشاعر جيّاشة بالحبّ والإخلاص يجيد الحديث والحوار والشّعر وفنّ التّعامل مع الآخرين على اختلاف أساليبهم .
نشأ هذا الشّاب مع أخواته السّبع إذ وُلد بعد خمس بنات فكان له النّصيب الأكبر عند والديه من الرّعاية والاهتمام والتّفضيل على أخواته وهذا الأسلوب في التّربية جعله يتعاطف من أخواته كثيراً ويحاول إسعادهنّ والوقوف معهنّ دائماً بل مع كل امرأة بشكل عام .. وعندما كبر هذا الشاب تعلم على يد شيخه (الشنقيطي) وسعى مع مجموعة من شيوخ القبائل للقضاء على الجهل المنتشر في ذلك الوقت حيث كان الناس يهتمّون بتعليم الذّكور دون الإناث ما أثار حفيظة الشّيخ مساعد ورفض أن تبقى الأمّ والأخت والابنة في ظلمات الجهل لأنّه كان يدرك جيدا” أن تعليم المرأة والاهتمام بإعدادها سيحيي المحافظة كلّها وسيكون أثره إيجابياً في تطوير المجتمع متمثّلا قول الشاعر حافظ إبراهيم:
الأمّ مــدرسـةٌ إذا أعــددتـهـــا
أعـددت شعبا ً طيّب الأعــراق
الأمّ روضٌ إن تعهّــده الحيـــا
بالـــريّ أورق أيّمـــا إيــــراق
الأمّ أستــاذ الأساتــذة الأُلــــى
شغلت مآثرهم مدى الآفـــــاق
ولكنه قوبل بالرفض والانزعاج من الشّيوخ المرافقين له بل من المجتمع كله ولكنه -رحمه الله- أصرّ على ذلك بقوة وناضل لوحده من أجل تعليم المرأة وأخذ يتنقّل ويسافر وحيداً من مكان إلى آخر ليحظى بالموافقة على افتتاح مدرسة لبنات خليص رغم رفض الجميع متحدّيا ًبذلك كلّ العادات والتّقاليد الّتي تمنع خروج الفتاة من بيتها إلّا للرّعي أو لالتقاط ثمار التّمر من النّخيل.
وعندما استلم قرار فتح مدرسة للبنات رفض أولياء الأمور تسجيل بناتهم فأخذ يتنقّل بين القبائل ليقنعهم بذلك ولكن لاحياة لمن تنادي.. فما كان منه إلا أن سجّل بناته وبنات إخوانه وأخواته ..وتمّ الافتتاح وجعل مقرّ المدرسة بيت ابنه وهو عبارة عن غرفتين من الحجر بمساحة ٧ x ٥ وغرفه الإدارة ٤x٤.
وبعد ذلك قام أبناء عمومته بتسجيل بناتهم بينما أصرّ بقيّة القبائل على عدم تعليم بناتهم واستمرّ الحال لمدة عامين مع تكرار المحاولة منه -رحمه الله- وبمساعدة عدد من الشّباب ممّن ذاقوا حلاوة العلم واستطاعوا أن يقنعوا الأهالي بتسجيل بناتهم مع بنات المغاربة في المبنى الجديد في (الابتدائية الأولى بخليص للبنات) وما زالت هذه المدرسة والفصول الأولى موجودة حتّى وقتنا الحاضر..
في هذه المدرسة تحطّمت أصنام الجهل وتلاشت العادات السيّئة وانطلقت فتاة خليص تنهل العلم بشغف عذباً فراتاً سلسبيلاً على يدي معلمات فاضلات من جنسيّات عربيّة مختلفة وكافحت في سبيل تعلمها مضحيّة بأوقات راحتها لتستزيد من العلم فهي خادمة مطيعة في بيت أهلها أو زوجها تهتمّ بكلّ شؤون المنزل مع استقبال الضّيوف في اَيّ وقت (فالبيت مفتوح والخاطر مشروح للضّيوف) بدون مواعيد مع عدم وجود خادمات للمساعدة وأحياناً عدم وجود غسّالة للملابس حيث كان الغسيل يتمّ باليد في أغلب الأسر إضافةً إلى أنّ البيوت فيها باحات مفتوحة ممّا يجعل لها النّصيب الأكبر من الأتربة والغبار والأمطار.. وكان على يجب على الفتاة الانتهاء من تنظيفها على أكمل وجه ليُسمح لها بفتح حقيبتها المدرسيّة والقيام بحلّ واجباتها وحفظ دروسها .. ورغم ذلك كانت تشعر بالمتعة والانشراح لأنها أدركت قيمة الخروج من ظلام الجهل إلى نور العلم فصمدت أمام كلّ التّحدّيات والإحباطات التي كانت تواجهها مثل قولهم : ( لا تهلكين نفسك بالقراءة ما راح تنفعك!).
وقبلت الفتاة التحدي بعزيمة لا تلين مصمّمة على بلوغ ما تطمح إليه. وخلال ١٣عاماً تخرّجت بنات الدفعة الأولى ثمّ الثانية ثم الثالثة من معهد خليص الثّانوي وقد تمّ تعيينهنّ جميعاً في مدارس المحافظة وبدأ التّطور المتصاعد في وعي وثقافة المجتمع، وقرّت عين شيخنا الفاضل برؤية بنات المحافظة وهنّ معلمات ومديرات ومُشرفات يشرّفن أهالي المحافظة في كلّ محفل.
أ. حنان سعد مساعد المغربي
قائدة تربوية سابقة بتعليم خليص