حلمي الصغير حال بيني وبينه الموج كتمته في صدري سنين ولم أبح به إلا لنفسي حتى نفسي كنت أحدثها به سرا خوفاً عليه ! وهو يداعب خيالي كلما نظرت الى السماء ! تبخّر الحلم ولم يتبق منه إلا خطين مطرزين في طرف أكمام ثوبي تشير إلى بذلة كابتن طيار مضى الحلم الجميل والخيَّرة فيما أختاره الله ! لاتكن أسيرا لأحلامك بل أطلق العنان لخيالك فثمة حلم جميل آخر ينتظرك .
الحنبل الأحمر والسبورة السوداء والطباشير البيضاء لوحة من الألوان شكلت ملامح جيلنا والذي أُصطلح مؤخرا على تسميته بجيل الطيبين ! هيهات أن يجود الزمان بمثله إنَّ الزمانَ بمثلهِ لبخيلُ ! وفي كلٍ خير . ولكل زمان دولة ورجال ! و الحمد لله أن جاء ميلادي وقطار التعليم كان للتو قد حط رحاله في ربوع قريتي الحالمة ! والتي غدت اليوم مدينة ! تزين خارطة الوطن وترسم لوحة جمالية لملامح التنمية والنمو الحضاري.
وسط جيل من الآباء والأجداد سطروا أجمل صور التضحية والبذل والعطاء عملوا وتحملوا شظف العيش وصعوبة الحياة من أجل أن نتعلم مضى ذلك الجيل الذي تكبد مصاعب الحياة بكل أشكالها. وقصص الكفاح التي تُروى تُكتب بماء الذهب ألا فليرحم الله تلك النفوس الأبية المجاهدة والتي بذلت بسخاء وأعطت بلا منة . قاسوا مر الحياة لننعم نحن بحلوها !
أتأمل في هذا كله وأنظر الى حياة أبنائي الآن وهم في مدارسهم يجلسون على مقاعد وثيرة وأمامهم سبورة افتراضية وبين أيديهم شاشة جذابة والعالم كله بين أطراف أناملهم . لكن لا بأس فذاك زمننا وهذا زمنهم والحياة قطار يسير والأيام محطات توقف !
لربما يكون حديثي مختلفا عن أحاديث أخوة فضلاء في هذه الزاوية لن أروي لكم تفاصيل خارطة طريقي فهي بلا شك تشبه قصص أبناء جيلي فالأحداث متشابهه ولا أزعم أني أتيت بما لم تأت به الأوائل ! لكنها قناعات توصلت اليها بعد تأمل ونظر أخاطب بها نفسي التي أغلبها مرة وتغلبني مراراً .
المسيرة التعليمية مثل أبناء جيلي درست الابتدائية في غران والمتوسطة بخليص والثانوية بجدة وتخرجت من قسم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز. غير أني لم أكن الأول على الدفعة ! ولم أحظ بمرتبة الشرف ! وحروف تقديري لم تتجاوز الحروف الثلاثة ! وهذا سر لا ضير من البوح به الآن ! فالأسرار العسكرية يزاح عنها الستار بعد مرور عدة سنوات أما وقد مضى عليها ما مضى فلا بأس من الافصاح فليس هنا إلا صديق ومحب !
من أبرز المواقف التي لا زالت تسكن ذاكرتي أني تعرضت للتهديد بقطع أحد أصابعي الغالية نعم تمت المحاكمة وأحضر النطع والسيف فقد وقفت أمام السبورة ونادى المعلم يا غلام أحضر الحجر اذ لم يكن هناك نطع ولا سيف. وجريمتي أنني لم أستطع أن أقرأ نصاً في درس القراءة ! تمت المحاكمة ورفعت الجلسة لعدم كفاية الأدلة ! ووصلت الرسالة وترسخ في عقلي الباطن أنك ستفقد أحد أناملك في المرة القادمة إذا لم تتقن القراءة ! والحمد لله أني لازلت أحتفظ بأناملي العشرة !!
وهنا وقفة طريفة ! حيث كانت الجامعات تبعث أسماء الخريجين لديوان الخدمة المدنية( وزارة الخدمة المدنية حاليا) ومن ثم يقوم ديوان الخدمة المدنية بإعلان الترشيح على الوظائف المتوفرة بحسب تخصصات الخريجين وتعلن الأسماء في الصحف وبحمد لله ابتسم لي الحظ كعادته معي ! وحصلت على وظيفة مرموقة وفي مكان لا يتمناه أحد !! حيث ترشحت أمين مكتبة في سجون الرياض ! طبعاً رفضت الوظيفة جملة وتفصيلاً سمعتي خط أحمر !
موقف : عندما حملت خطاب التوجيه لأحد المدارس بأحد أحياء جدة الشعبية لا أتذكر أسمها لكني أذكر كلمات مديرها والذي حينما قرأ خطاب التوجيه ورأى التخصص (المكتبات) سألني باستغراب ايش راح تدرس ؟ وأجبته بأنني موجه للتدريس بالمرحلة الابتدائية ومستعد للتدريس لأي مادة ! فقبل الخطاب على مضض وكنت قد عزمت على تغيير الصورة التي في ذهنه ولكن مع الأسف تم نقله من المدرسة في نفس الأسبوع !(خذها قاعدة : مهما كان الموقف, ليكن رد فعلك راقياً )
أمضيت في العمل مرشدا طلابيا ما يقارب عقداً ونيفاً من الزمن كنت أمارس دوراً أشبه بدور المنقذ الذي يحمل طوق النجاة ويراقب المئات وهم يخوضون وسط بحر من الأمواج ! إذ يتعرض الشاب في هذا السن لسيل جارف من التحديات. مرحلة صعبة تلك التي يمر بها طلاب المرحلة الثانوية تحديدا ولعل أغلب التحديات نشأت من غياب مبدأ الحوار خاصة بين أفراد الأسرة فظهرت بذلك تحديات ساهمت في ضياع عدد من الأبناء وتفاقمت مشاكلهم وربما قضت على مستقبلهم ودمرت حياتهم ! فكم من المشاكل بدأت صغيرة ثم استفحلت بسبب عدم توفر قنوات للحوار مع الشباب فالحوار يفتح الطرق المسدودة ويزيل الحواجز الوهمية.
موقف ! من العادات الجيدة التي كنت أحرص عليها مع طلابي كسباً لودهم ورغبة في إزاله الحواجز وتحقيق مزيداً من الألفة كنت حريصاً على مصافحتهم بحرارة والتبسم في وجوههم ووجدت لذلك أثرا كبيراً في نمو علاقتي المهنية معهم ولعل من المواقف الطريفة أنه كنت ذات صباح في استقبال الطلاب وهم يدلفون الى المدرسة فكانوا يمرون من أمامي فيصافحونني فلا يكاد يمر طالباً إلا ومد يده ليصافح وشاهد المنظر أحد المعلمين فقال لي مداعباً ما شاء الله مسوي فيه الحجر الأسود !! لا يوجد شعور أعظم من أن تشعر أنك محبوب !
كنت أسكن بنفس الحي الذي به مدرستي وكان عندنا طالب لديه شيء من العدوانية وكنت قد شاهدته في الحي وهو يحضر والده للمسجد بالعربية من مكان بعيد عن المسجد وشاهدت هذا المنظر يتكرر كثيرا واعجبني بر الطالب بوالديه رغم ما يمارسه من بعض السلوكيات العدوانية مع زملاءه وأحيانا سوء تعامل مع بعض المعلمين فاخترعنا جائزة تحت مسمى (جائزة بر الوالدين) وتم تكريم الطالب أمام زملاءه بالجائزة شهادة وجائزة عينية . وسط اعتراض بعض من المعلمين عطفاً على سلوك الطالب داخل المدرسة . لكن كانت هذه الجائزة نقطة تحول في حياة الطالب وكان لهذا التكريم أبلغ الأثر في تغير سلوكه ايجاباً خذها قاعدة : كلنا بحاجة للتقدير .
ولعلي أهمس في أذن كل من حظي بلقب متقاعد بانه حان الوقت لتبدأ مشروعك الجميل واستثمارك الأمثل وتخوض السباق سباق عنوانه ناجحون في امتحان الحياة نحن بلا شك جميعا في صالة الانتظار وقد حزمنا أمتعتنا متأهبين وبانتظار الإعلان الأخير لرحلتنا لا داعي للقلق واطمئن فمقعدك محجوز ولن يذهب لمسافر آخر !
لحظات الاقلاع مقلقة حتى لأولئك اللذين اعتادوا على السفر الدائم . مرت سنوات العمر سريعا إن يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون !
وشجرة في الجنة يسير تحتها الجواد المضمر مائة عام لا يقطعها ! وجنة عرضها كعرض السموات والارض وقصور وحور وأنهار كل هذا بالقرب منك ..( الجنة أقرب لأحدكم من شراك نعله !).
طوبى للمتقاعد حين يغير وجهة بوصلته باتجاه الباقية حيث المصير الأجمل والذي تطمح إليه النفوس المؤمنة دعك من المغامرات غير المحسوبة ! مارس دور عضو الشرف ! واسمع للقائل : نور حياتك بالهدى وأسلك طريق التائبين وأعمر فؤادك بالتقى وأحمل بصدرك مصحفاً يشرح فؤادك كل حين.
نورٌ لك في دنياك ونورٌ لك في أُخراك لايزال يمنحك من أنواره ويحيطك ببشائره بل ويرفعك ويشفع لك فهلا اتخذته رفيقاً خليلاً (اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا )
عش أيامك واستمتع بوقتك وعينك على خط النهاية نهاية السباق لتظفر بالحسنى كما قال الأول فزت ورب الكعبة ! وقال الآخر لمثل هذا فليعمل العاملون .
كثيرة هي النهايات الجميلة والخواتيم الحسنة والتي نتمنى لأنفسنا مثلها لكن يغيب عنا أن خلف تلك الخاتمة الجميلة قصة كفاح وعمل صالح وركعات في جوف الليل وصدقات سر وصيام هواجر . وخبيئة عمل
مضى عهد النوم يا خديجة ! قالها النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزلت عليه أوائل سورة المزمل ! حريٌّ بنا أن يخاطب كل منّا بها نفسه مضت سنوات الكدح والعمل والبناء وبدأت سنوات العمل للحياة الباقية هناك حيث الْجَنَّةَ التي لا خَطَرَ لَهَا , هِي وَرَبِّ الْكَعْبَةَ نُورٌ يَتَلأْلأُ , وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ , وَقَصْرٌ مَشِيدٌ , وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ , وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ , وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ , وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا , فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ , فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ “
واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل ! كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنا أجزئ به . أبواب الخير لا تحصى وأبواب الجنة ثمانية جاء في وصفها أن ما بين المصراعين ( دفتي الباب ) كما بين بصرى والشام (ذكر الشيخ الزنداني أن المسافة بينهما تقدر بأكثر من 1200 كم ) .
وليأتين عليه يوم وهو كضيض من الزحام ! نعم إنه من الغبن أن تكون الجنة عرضها كعرض السموات والأرض ثم تعجز أن تجد لك فيها موطئ قدم ! ألم يقل الله عز وجل لنبيه الكريم : ( .. فإذا فرغت فأنصب ).
أما حان الوقت لتضرب لك بسهم في كل باب من أبواب الخير سددوا وقاربوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة .يُخيّل لي أحيانا أنني أعتلي منبر خطيب الجمعة أهز أعواده ! ولو صعدت لربما سقطت من علو مغشيا علي !!
خطب النبي محمد صلى الله عليه وسلم الناس في خطبة الوداع فقال : لعلي لا القاكم بعد عام هذا ! كم من الأحبة ودعناه على أمل اللقاء به ولسان حاله يقول لعلي لا القاكم بعد عامي هذا …أما أنا فأرجو أن ألقاكم كل عام حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا …. ومعذرة إن استطردت كثيراً … طابت لحظاتكم ، وطالت أعماركم في طاعة الرحمن.
عبدالرحمن مصلح المزروعي
مرشد طلابي (سابق) بثانوية عين جالوت بمكة المكرمة