الحقائق موجودة دون ريب.. إذا ما قلت: “الضوء ينتقل أسرع من الصوت”، وقال أحدهم عكس ذلك، فستكون أنت المحق بكل تأكيد، وسيكون هو المخطئء، والملاحظة البسيطة للبرق وهو يسبق الرعد يمكنها تأكيد ذلك.
فإذن أنت لست محقاً فحسب، لكنك تعرف يقيناً أنك محق.
أثمة أي دور للأنا المخاتلة هنا؟! ربما، لكن ليس بالضرورة.
إذا ما كنت تصرح ببساطة بما تعرف يقيناً أنه صحيح، فلا علاقة للأنا بذلك البتة؛ لأنه ليس هناك أي تماه.
فالتماهي هنا مع ماذا؟ مع العقل والوضع الذهني، بَيْدَ أن مثل هذا التماهي يمكنه أن يجد طريقا للتسلل.
فإذا وجدت نفسك تقول: “صدقني، إنني أعرف”، أو “لماذا لا تصدق أبداً ؟”، أو نحوها؛ فعندئذ تكون “الأنا” قد تسللتْ بالفعل؛ فهي تختبئ في الكلمة الصغيرة “إنني”.
إن التصريح البسيط: “الضوء أسرع من الصوت”، ورغم أنه صحيح، فقد أصبح في خدمة الوهم، في خدمة “الأنا”، لقد أصبح ملوثاً بإحساسٍ زائف بـ “الأنا”؛ أصبح مشخصناً، وتحول إلى وضعية ذهنية تُشّعِر “الأنا” بالتلاشي أو بالإهانة؛ لأن أحداً ما لا يصدق ما قد قلت.
تأخذ “الأنا” كل شيء على محمل شخصي. تنشأ المشاعر، والحس الدفاعي، وربما حتى العدوانية.
أتدافع هنا عن الحقيقة ؟ لا، فالحقيقة لا تحتاج في أي حال من الأحوال إلى دفاع؛ فالضوء أو الصوت لا يهمها رأيك أنت أو رأي سواك، بل أنك تدافع عن نفسك، أو عن الوهم الذي لديك حول نفسك.
إنه التعويض الذي اصطنعه العقل، وسيكون أدق حين نقول: أن الوهم يدافع عن نفسه.
إذا ما كان مجال الحقائق البسيطة والمباشرة يمكن أن يذعن للتشويه والوهم الأنويين، فماذا إذن عن مجال الآراء ووجهات النظر والأحكام، وجميعها أشكال عقلية يمكن ببساطة غرس الإحساس بـ “الأنا” فيها.
وهنا يأتي دور الوعي في التخلص من هذا الوهم في توضيح أنَّ كل”أنا” تخلط بين الآراء ووجهات النظر وبين الحقائق، بل أكثر من ذلك؛ لا يمكنها أن تميز الفرق بين حدثٍ ما وتفاعلها مع هذا الحدث.
فكل “أنا” هي كناية عن التصور الانتخابي والتفسير المشوه.
فقط من خلال الوعي –لا من خلال الفكر– يمكنك التمييز بين الحقيقة والرأي.
وعبر الوعي تكون قادراًً على أن ترى: هنا الوضع المعني، وهنالك الغضب الذي أشعر به تجاهه؛ وعندئذ ستدرك أن هناك طرقاً أخرى لرؤية هذا الوضع والتعامل معه.
فعبر الوعي يمكنك رؤية الوضع، أو الشخص بشموليته بدلاً من أن تتبنى منظوراً واحداً محدوداً.
وذات النسق تكون الأنا على المستوى الجمعي، فإن المنظومة الذهنية “نحن مصيبون وهم مخطئون” هي متجذرة عميقاً في تلك الأجزاء من العالم حيث النزاع بين أمتين، أو عرقين، أو قبيلتين، أو أيديولوجيتين، طويل الأمد وجذري ومزمن.
كل من طرفي النزاع يتماهى مع منظوره الخاص، مع “قصته” الخاصة، أي مع الفكر. وكل منهما عاجز بالتساوي عن رؤية أنه قد تكون هنالك قصة أخرى، وأن هذه القصة قد تكون صحيحة.
وهنا يأتي الراشدون في الفكر ليقولوا كلمتهم: “إن التماهي التام مع الفكرة والعاطفة ما هو إلَّا انتصار للنفس “الأنا”، وأنَّ إخضاع الآخرين لرأيٍّ ما هو إلَّا إخضاع لسلطة صاحب ذلك الرأي، وأنه يمكننا التحرر من قبضة هذا الجنون الذي يقبع في جذور نفوسنا، عبر الوعي أنه هناك أكثر من زاوية يمكن لنا النظر من خلالها إلى تلك الحقيقة.
حينها سنجد أن الأمر أكبر سعةً وأكثر مرونةً بدلاً من اختزاله في رأيٍ أو عدة آراء سلّمنا مسبقاً برجحانها وصوابها على غيرها، وكان تركيزنا مُكثّفَاً على ترجيح والفوز لآرائنا، وتغافلنا في ظل هذا السباق المحموم “المشكلة” محور الحديث، وغلّبنا المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
سليمان مسلم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي