يُفضل الإنسان استكشاف الجانب الأبعد من القمر، أو قاع المحيط على استكشاف الأعماق المخفية داخل ذواتنا
ومع ذلك، يمكننا تجربة الرحلة الأعظم وهي الرحلة التي نكتشف فيها أنفسنا
وفي قوله تعالى: “وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”..
دعوة للشروع لهذه الرحلة؛ لما تمنحه لنا من التبصُّر والتأمل.
هذا التبصُّر الذي يقود عقولنا وقلوبنا نحو الذهاب بعيداً داخل أنفسنا، ومدارسة عظمة الخالق عزَّ وجل في خلقنا بهذه الدّقة المُتناهية لكل خليةٍ من خلايا أجسادنا، مُسّتحضِراً في ذهنه ومُوقِناً في قلبه قوله تعالى:
”إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”..
هذا القدّْر المُتناهي ليس في خلق المخلوقات المادية، بل يتجاوز ذلك إلى الأمور المعنوية منْ بهجةٍ وسعادة، ومن هَمٍّ وحزن.
وهذا الإيمان العميق الذي يسري في النفس ويسكن سويداء القلب وتجاويف الروح يكون نتيجةً لذلك الإبحار الواعي عبر ذواتنا.
وليس معنى ذلك أنْ نركن فقط إلى أنفسنا في سلسلة تأملاتٍ تَصرفنا عن العمل البنّاء والتفاعل المُثمِر مع متطلبات الحياة، بل أنْ ذلك الإيمان العميق والقراءة النافذة إلى كينونة خلق الحياة يُصاحبنا في كل أعمالنا التي نُباشرها، وفي أدق تفاصيل يومنا.
إنَّ هذا الإبحار الممزوج بالرغبة في اكتشاف ذواتنا، واستقصاء لفضاءٍ داخلي قَلَّ ما نُبحر فيه؛يمنحنا تَشكُّلاً لكيمياء روحية، وهي الكيمياء التي يحدث فيها تَحوّل لرؤيتنا العادية لأنفسنا، وللحياة، وللكون، وللأحداث التي تمرُّ بنا.
هذا التحوّل، وتلك اليقظة قد تحدث لك في لحظة الاستيقاظ صباحاً، أو في لحظة عزلة، أو حالة تَفَكُّر، أو ممارسة رياضة.
والجامع في كل تلك الأوقات أنَّ روحك تكون في حالة اتصالٍ مع خالقها عزَّ وجل؛ وهذا من شأنه أن يجعلك أنْ ترى العالم محسوساً أكثر من المعتاد، وتغدو نظرتك للأمور أكثر واقعية ممزوجةٍ بإنسانيةٍ لم تعهدها من قبل، وتصبح الأشياء من حولك نابضةً بالحياة بطريقةٍ متدفقة ومتصلة ببعضها كما لو أنَّها تعبير عن قوةٍ أو طاقةٍ ما.
ونتيجةً لتلك الرحلة الأعظم نحو الفضاء الداخلي تستشعر قدرة الله عزّ وجل ورحمته وعظيم لطفه في كل أمورك، بل في كل ما حولك؛ فتشعر لأول مرةٍ بتصاعد وسكون طاقة الحياة؛ حيث تفيض طاقةً جديدة عبر كينونتنا مُكثِّفة إدراكنا، صانعةً إحساساً لذيذاً بالعافية.
إنَّ هذه الرحلة الأعظم التي نشرع فيها وقد تجهزّنا لها بصلةٍ وثيقة بالله عزّ وجلّ؛ تجعلنا نَكُفُّ عن العيْش على سطح الحياة، بل تساعدنا هذه الرحلة على فتح مستويات أعمق من كينونتنا بحيث نصبح أشدُّ قوةً واكتمالاً، وأكثر اكتفاءً بأنفسنا، وأكثر عطاءً وبذلاً للآخرين، مُتَجذّرِين -في كل ذلك- على نحو أعمق في أنفسنا.
سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي