يبدو أن ثقافتنا وعلى مدى قرون طويلة تغذت على دلالة البيت الذي يقول:
إذا ضاقَ صدر المرءِ عن سرِ نفسه
فصدرُ الذي يستودعُ السرَ أضيقُ
فغدونا في تماهٍ عجيب وفق دلالته، وتناغم مع إطلالته في كل موقف حدّث صاحبه نفسه بالبوح.
ومع أن هذا الأمر لا يؤخذ على إطلاقه كما أنه لا يصح تعميمه.
لكن ثمة حالات تخرج عن هذا النسق الثقافي لتخاتل النفس بالرغبة الملحة في البوح مما يختلج به القلب.
ذلك البوح الذي يتسلل عبر شقوق صمت الكلمات.
بوحٌ يتفلّتُ من بين أيدي حروفنا؛ حين نصمت لنستجمع قوانا.
مع أننا في كثير من أحوالنا نعتصم بصمتنا، لكن كلماتنا تستجيب لأوجاعنا؛ فتنكأ جراحنا، ويغدو صمتنا في مواجهة خاسرة ضد حليفين كبيرين: كلماتنا وأوجاعنا.
فلا نجد بدّاً من أن نتماهى مع جراحنا؛ لندفن قلوبنا بحفنة من رمال كلماتنا.
وفي الجهة المقابلة ثمة فريق ينادي بسؤالٍ يضجُّ في فضاءات المدى:
ولِمَ الصمت؟
فالصمت عيٌّ وكثيرٌ فاعله
والبوحُ بلاغة وقليلٌ قائله.
وفي وسط هذه الفضاءات التي تحتشد فيها جيوش الأسئلة وعتاد الإجابات، جاء رجلٌ من أقصى الروح يدعونا بقوله:
تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم
بين الصمت وبين البوح.
فخطَّ على الرمل ست خطواتٍ لبوحٍ واعي
إنْ اتّبعها الإنسان خرج من حرج بوحه وعالج نفسه من سرٍّ أتعب قلبه.
أولاً:
قبل أن نشرع في فعل البوح ذاته.
علينا أن نضع مصطلح البوح تحت مشرط التشريح اللغوي لتفكيك دلالته وتوضيح كينونته.
ثانياً:
يمكننا مصاحبة أنفسنا صحبة المحب لحبيبه المتقبل له بكل أحواله وعلاته.
ثالثاً:
بعد أن ننجح في هذه المصاحبة لأنفسنا، نبدأ في المصارحة والمكاشفة دون شرطٍ أو قيد ودون مدحٍ أو قدح.
فالموضوعية واللطُّف عاملان مهمان في هذه الخطوة.
رابعاً:
إنْ نجحنا في المكاشفة بشرطيها (الموضوعية واللطف)؛ نكون قد بدأنا في معرفة الدوافع الخفية التي تقف خلف كثير من مشاعرنا وأفكارنا وأفعالنا.
خامساً:
بعد نجاحنا في المكاشفة، من الطبيعي أن نتعرض لصدمة السؤال ونفور الإجابات.
علينا أن نتعايش مع هذه الصدمة بكل آلامها، وما تفرزه من صدماتٍ متتالية قد تؤدي إلى الانهيار إنْ لم يكن لدينا الجسارة النفسية اللازمة.
سادساً:
بعد مرور وقت على تلك الصدمة قد يطول وقد يقصر.
نشعر أن ثمة تحول ذهني يلوح لنا في الأفق.
هنا نحن بحاجة لحكيم رشيد يأخذ بأيدينا نحو أرضٍ جديدة نزرع فيها نفساً جديدة
هي ذاتنا الجديدة بعد بوح مرير وصمت أكثر مرارة.
سليمان مُسلِم البلادي.
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي