ثرثرة عند رأس ميت!

إن المواجهة مع الموت تمتلك عدداً من التأثيرات المألوفة، تجعلنا أولاً واعين بقيمة الحياة، إذ ندرك أن الحياة أثمن من أن تهدر؛ وبالتالي نشعر بالحماس والانتعاش، ونتحرر مما يمكن تسميته “وهم الديمومة”، وهو الافتراض غير الواعي بأننا لن نموت، هكذا يُخيّل لنا -للأسف- من خلال الركض الدؤوب واللهث المستمرين في الحياة.
عادةً ما لا يكون الموت حقيقة واقعة بالنسبة إلينا؛ ولذلك فإننا لا نعيش وفقاً لذلك.
إلاَّ أن مواجهة قريبة معه توقظنا على ورطتنا الحقيقية، وتجعلنا ندرك أن وقتنا محدود وبالتالي ثمين.
من تأثيرات هذا الأمر، أنه يجعلنا نُعيد تقييم حياتنا، ونشكك في المسار الذي كانت تسلكه حياتنا، ونقرر تغييره لصالح درب أكثر إثماراً ومعنى.
وندرك أن الحياة أغلى من أن نضيعها في العمل في وظائف لا ترضينا، أو نمضيها
مع من لا يحبوننا حقاً، أو من لا نحبهم بصدق.
كذلك نشعر بشيء من الإلحاح، ونصبح أكثر عزماً على تحمل المخاطر لعلمنا أن بين أيدينا قدر محدد من الزمن.
قد يؤدي هذا كذلك إلى إحساس جديد بالهدف، ورغبة في استغلال وقتنا المحدود على أفضل وجه في مساعدة الآخرين، أو تعزيز تطورنا الشخصي.
إن الوعي بقصر الحياة وقيمتها يحررنا كذلك مما أسميه بـ “متلازمة الأمور المفروغ منها”، وهي ميلنا إلى عدم تقدير الأشياء الموجودة في حياتنا والتي ينبغي أن نكون شاكرين لوجودها مثل: صحتنا، أحبائنا، سلامنا، وحريتنا.
فنشعر بناء على ذلك بتقدير جديد للناس في حياتنا والأمور الدنيوية اليومية مثل: الطعام، الماء، الحياة بكل مكوناتها.
تجعلنا المواجهة مع الموت كذلك أكثر تمركُّزاً في الحاضر.
يعود ذلك في جزء منه إلى علمنا بأنه قد لا يكون لدينا مستقبل، أو على الأقل مستقبل قصير الأمد؛ ولذلك نكفُّ عن التطلع إليه، والاندفاع نحوه، أو إثقاله بالأهداف والطموحات.
أيضاً ندرك أن المستقبل والماضي غير موجودين حقاً إلا كفكرتين في رؤوسنا، وأن الحياة تشتمل على الحاضر وحسب، وأن قيمة الحياة تكمن في الحاضر المتدفق الذي تعيش من خلاله.
إن هذا التمركز في الحاضر هو كذلك جزء من السبب في أننا أصبحنا أكثر إدراكاً للجمال والإعجاز.
إنه يعني أننا أصبحنا أكثر يقظة، وأكثر انتباهاً لتجربتنا الحاضرة بحيث تغدو إدراكاتنا غير آلية، ونصبح أكثر إحساساً تجاه جمال العالم وكينونته الخام.
وفي هذا الصدد، يمكن أن يُسّكتَ اللقاءُ مع الموت ثرثرة ذهننا المعتادة الذهنية تدور حول الماضي والمستقبل.

سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@