من الطبيعي اختلاف وجهات النظر وتباينها بين الناس، بل من الصحي وجود هذا الاختلاف في الرأي، وطريقة النظر إلى أمرٍ ما؛وهذا يحدث نتيجةً لاختلاف مشارب الناس.
ومع تسليمنا بصحة هذا الاختلاف، لكن ما نراه في واقع حياتنا؛ نجد فيه اختلافاً عظيماً وبوناً شاسعاً في طريقة الطرح والتناول لأي قضيةٍ تكون موضوعاً للنقاش والتحاور، أو مَرَّ عليها عليها حديث المجالس الواقعية والافتراضية.
فعادةً يبدأ الجالسون في تناول الموضوع محل التحاور حيث يعبر كل واحد منهم عن وجهة نظره، لكن هذا الحال لا يظل كهذا؛ إذْ لا يلبث أنْ يتبدل الحال؛ فتبدأ حروب وجهات النظر في قرع طبولها، وتسمع صفارات الإنذار إيذاناً بقرب خطب جلل وخطر محدق سيغشى سلام المتحاورين ويستحث قدراتهم الدفاعية وحشد أسلحتهم في سبيل تأكيد وجهة النظر التي طرحها ودحض ما سواها؛ فيتحول ذلك المجلس من مكانٍ وديع وآمن لتبادل أطراف الحديث إلى ساحةٍ من معركةٍ شرسة لا سبيل إلى توقف نارها إلا بعد احتقان الصدور بالغل والبغض.
هذه السطور ليست من مشهد سينمائي، بل توصيف لواقع بعض مجالسنا.
فإذا مررت بمثل هذه المجالس؛ فاعلم أنَّ هؤلاء القوم قد تمكن من عقولهم شيطان الأنا (ego) وأصاب قلوبهم مَسٌّ من سحر تلك الأنا المقيتة في على حين غرة.
فتجد أحدهم يطرح وجهة نظره، فمن أيّده وذهب مع رأيه؛ كانت له الحظوة والثناء الطيب، وأمّا من اختلف معه؛ فيغدو له عدواً يرمقه بعين الاستنقاص والازّدراء.
وأحياناً تجد أحدهم يستمع للمتكلم لا ليفهم وجهة نظره، بل ليحشد جيوش عقله وأسلحة منطقه؛ ليرد عليه، وينسف كل ما ذكره، ويُسفّه قوله على مرأى ومسمع من الحاضرين دون أن يردعه أدب الحوار،أو مراعاة لمشاعر ذلك المتكلم.
وفئة أخرى نجد أن لهم طريقة ماكرة، فما أن يبدأ المتحدث بسرد قصة، أو نكتة ولا يكاد ينتهي منها إلَّا ويبادره أحدهم قائلاً للحاضرين: سأذكر لكم قصةً أفضل منها، أو نكتةً أكثر طرافةً من هذه النكتة.
وهو بذلك الفعل يمارس إقصاءً لذلك المتحدث، وإزاحةً له من المجلس، وتهميّشاً لمكانته، واستخفافاً بما أورد من قصةٍ أو نكتة.
إنَّ مثل هذه السلوكيات في بعض مجالسنا وممارستها بهذا الشيوع يُعدُّ مؤشراً خطيراً لاندثار الأخلاق في المجتمع في جانب أدب الحوار.
وللحدِّ من تفشّي هذه الظاهرة علينا أنْ ندرك أمرين:
الأول: استلهام الهدي النبوي الشريف في أدب الحوار.
الثاني: إدراك مدى تَلاعُّب الأنا (ego) بصاحبها عندما لا يفطن لحيلها وتنوُّع مخادعتها له.
وهذا الأمران لا يتم إدراكهما إلَّا عبر الانتقال من حوار الوعي إلى وعي الحوار.
فكم نحن بحاجةٍ ماسةٍ لهذا الانتقال وصولاً إلى إنهاء حروب وجهات النظر.
سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي