“ليس حسنًا أن يعزلَ كاتبٌ قلمه! ولكن هكذا قدّر الله… فلمّا عُدتُ إليه أحملُه، ثقُل محمله، وقد صَدِي سِنّه، ورَسف في قيود الإهمال خَطْوه، وإذا هُوّة سحيقة القرار قد انخسفت بيني وبينه… ولكني على ذلك كله اليوم مُرغم” ص21 هكذا بدأ شيخ العربية محمود شاكر -رحمه الله- أُولى مقالاته المنشورة في كتاب (أباطيل وأسمار)، الذي بحثتُ عنه طويلًا ثم لما وجدتُه فاجأني بأن البداية بهذا الصدق! وبهذا الأدب الذي ينبغي أن يتنبّه إليه كل ذي قلم.
(أباطيل وأسمار) هو كتابٌ يُحتذى به في الجمع بين أهمية الموضوع وجودة السَّبك والأسلوب. كَتبه أبو فِهر للدفاع عن الأمة العربية والإسلامية، فدافع عن الإسلام وعن العربية، وأبانَ في مواضِع متعددة عن الرابط بينهما. وجاءت قضايا الكتاب متنوعة المحاور بحسب حديث الكاتب في مقالةِ كل أسبوع، فالكتاب جمعٌ لشتات تلك المقالات، وما أنقصَ هذا من روعة الكتاب كوحدة موضوعية واحدة، ولا قلّل من دهشة القارئ بحسن تناول الكاتب وجزالةِ عبارته شيئًا، فصاحبه مجيدٌ مُتقن لفن المقال، وقد أبان عن أهمية هذا الفن بقوله: “حاجة القرّاء إلى المقالة أشدُّ أحيانًا من حاجتهم إلى الكِتاب” ص251.
وبغض النظر عن قيمة الكتاب ووزنه الثقافي الكبير، فإني متحدثةٌ في هذا المقال عن سطورٍ من كلام أبي فهر -رحمه الله- جاءت عَرَضًا في ثنايا تناولِه للقضايا التي تحدّث عنها، وهي على عَرضِيتها أسَرَتني -كما أسَرَني مَدخَلُه السابق ذكره- فعلّمتُ عليها وأبرزتها ههنا تحت عنوان (أدب الكاتب).
كل كاتبٍ يعقِدُ مع نفسه عقدًا خُلُقيًا، يطبقه في مكتوباته، ويحاسب نفسه وفقَه.. ويجد قارئ (أباطيل وأسمار) شيئًا من الحديث النفسي مصرّحًا به في مقالات محمود شاكر، ويتقبله القارئ بغير كلفة يشعر بها، غير أني هنا أستلُّها من سياقها وأُفردها بالإبراز والتعليق؛ طلبًا للاستفادة.
أُولى الإبرازات التي نتلقفها هي استشعار الكاتب لمسؤوليته العظيمة، فلا ينبغي له التدليس ولا التمويه على مَن أعطاه من وقته وسّلم إليه عقله باعتباره كاتبًا يثق بمكتوبه، يقول أبو فهر: “ليس حسنًا، بل معيبًا أن يتخذ كاتبٌ قلمه أداةً لخداع القارئ عن عقله والتغرير به” ص43 ويُفصّل هذه المسؤولية في موضع أكثر بَسطة فيقول: “وكل ناطقٍ بلسان أو كاتبٍ بقلم، فإنما هو مُعلم لمن يتلقّى عنه. فإذا احتال، وغش، وخادع، وكذب، واجترأ على ما لا يُحسِن، وادّعى ما لم يكن، وحرّف الكلم عن مواضعه، وبدّل لفظًا بلفظٍ ليزوّر باطلًا، فزوّق وحسّن، وأخفى معالم القُبح فيه بالتدليس، وستر عُواره ودَمامته بالمخرقة والتمويه… فقد خرج بفعل ذلك عن أن يكون مُبينًا وكاتبًا، إلى أن يكون دجّالًا..” ص87 فتاركُ الوضوح وسالكُ سبيل التمويه، الـمُخفي لسيء النوايا والـمُظهر لطيّبها هو قريب من كونه دجّالًا لا كاتبًا جديرًا بثقة الناس بكلامه! فما التدليس والتزوير إلا استهانةٌ بالناس وإرادة العلو على أكتافهم.
وأكثر من أدب الوضوح فإن كاتبنا يُعلّمنا أدبًا آخر من خلال تصريحه عن مَبدئٍ من مبادئه، إذ يقول: “لم أحمل القلم منذ حملتُه، إلا وأنا مؤمن أوثق إيمانٍ بأني أحملُ أمانةً، إما أن أؤديها على وجهها، وإما أن أحطم هذا القلم تحت قدمي بلا جزعٍ عليه ولا على نفسي. وأبيتُ منذ عقلتُ أمري أن أجعلَه وسيلة إلى طلب الصيت في الناس، أو ابتغاء الشهرة عندهم..” ص176-177 فالكاتب الحقيقي هو مَن يُراعي حقّ القلم، وأنه إذا كَتَبَ كَتَب بعلم وعدل، وبهذا يتحقق له حمل القلم بالقوة التي يستحقها. وفي الطرف الآخر فليس الكاتب مَن كان غرضه جني الشهرة بقلمه؛ فليست قضيته إحقاقُ حقٍّ أو إبطالُ باطل! فلا علم ولا عدل، وإنما هذرٌ أو تمويهٌ أو طُبوليات؛ سعيًا بهم نحو سرابِ الشهرة! فما هذا بمستشعرٍ للأمانة!
ويتناسب مع حديثه عن مسؤولية القلم وحقّه؛ ذِكره لشجاعة التحمّل والصمود إلى النهاية، وذلك بتقبل الكاتب للنقد المتوجه إلى مكتوبه، ولا يعتبر ذلك تجريحًا لشخصه طالما أن النقد ذا صلةٍ بمنطوقه وما يتفرع عن كلامه، ذا صلةٍ بما تدل عليه سطورُه من صفات، فيقول: “.. ليس بتجريحٍ للكاتب، إذا كانت (الصفات) التي يستحقها، مستخرجةً من نفس كلامه، من نفس منطقه، من نفس تفكيره، من نفس ضميره، من نفس هدفه. وكل لفظ يتضمن (صفة) من صفاته، لا يمكن أن يعد (تجريحًا)، إذا كان مَأتاهُ من تحليل الكلام والأهداف، مهما بلغت هذه (الصفات) من القسوة، أو الغرابة، أو الاستنكار.” ص492 فالكاتب الحقيقي يتحمّل ما يأتيه من دلالات سطوره، فهو أساسًا ما ابتدأ كتابتها إلا لحق يعتقده فيها، فلا يرمي التُهم على مَن ينقده بأنه يُجّرح شخصه، بل يقبل تبعات كلامه ويصبر على ما يأتيه منها.
ولعل هذا ما دفعني لاقتناص الأدب المتضمن في قوله: “إني لأجده حقًا عليّ أن أفسّر أشياء، أنا في نفسي غنيٌ عن تفسيرها لأحد. ولكن الكاتب معلّقٌ بقارئه، فإذا أغفل أن يجعل قرَّاءه على بيّنة من طريقه، كان خليقًا أن يصبح فيجد بينه وبينهم سدًّا مضروبًا، يعوقهم عن إدراك حقيقة ما يقول، أو يتركهم في اختلاف يقطعهم عن النفاذ إلى الغاية التي من أجلها يكتب ما يكتب.” ص485 فهو يختصر علينا الطريق ويُهدينا أدبًا فاضلًا يريح الكُتّاب من عناء التأويلات الـمُجحفة التي قد تلحق بعض مكتوباتهم، فحقٌ على الكاتب الحصيف أن يُغلق الباب، ويرحم الخلق من سوء الفهم والتأويل؛ وذلك بأن يُبيّن طريقه ويُفسّر ما هو مظنّة صعوبة الإدراك.
وما أعذبَ كلامه وهو يُعلّم معاشر الكُتّاب -دون قصد منه- ألا يتلقّفوا أقلامَهم قبل أن يستويَ عُودهم، وتستقر محاورُ الكلام نفوسَهم، فقال بعفوية الكاتب الـمُبين: “فأنا حين أتهيأ للكتابة، يخيل إليّ أن الموضوع قد استقرّ في نفسي واستوى، وأن الوجه قد استبان واستتبّت لي مذاهبه.” ص529 فنأخذ من هذا أنه ما ينبغي الكتابة في موضوعٍ إلا بعد نضوجه في ذهن كاتبه، وتتبعه لجهاته المتفرقة.
ثم هذا التتبع واستفراغ الوُسع، والحرص على حُسن الإبانة، واستحضار الجديّة والمسؤولية، وفوق كل هذا: توطين النفس وتعويدها على تقبّل النقد الحاصل من وراء المكتوب… كل هذا لا يُغفل الكاتب عن كونه أتى بالأسباب أما التوفيق فسبيله سؤال الله، وأن الكاتب لا يخلو من جوانب العجز مهما بدا سعيه للأسباب مثاليًا! وما صرّح أبو فهر -رحمه الله- بمنطوقه بهذا، لكنه أدبٌ تحلّى به؛ يُلمس في قوله ختام إحدى مقالاته: “فإذا قصّرت، فذلك المعهود من العجز، وإذا شارفت حدّ الإبانة، فبتوفيق الله وحده وتسديده.” ص181 مع أن عين القارئ لا تُخطئ جُهده المبذول في التتبع والإبانة!
خلاصة الآداب المستقاة من ثنايا صَنيع شيخ العربية محمود شاكر -رحمه الله- في كتابه الفذّ (أباطيل وأسمار) والتي إن لم يوردها قصدًا؛ لكن ما تنتهجه القامّة الشاكِرية في كتابتها؛ يُنصح بالتزامه:
▪️أن يستشعر الكاتب مسؤولية الكتابة والقلم فلا يخدع الناس، بل يحترم عقولهم وأوقاتهم.
▪️أن يحرص على سلامة أفهام الناس، فيُفسر لهم ما قد يُشكِل عليهم، فلا يضرّ نفسه ولا يضرّهم.
▪️أن يبذل أسبابه فيقرأ ويتتبع ويحاول الإحاطة بموضوعه، ثم لا ينفك عن سؤالِ الله التوفيق والسداد.
فمَن تخّلق بهذه الآداب؛ فحينها فليخاطب نفسه: “ليس حسنًا أن يعزلَ كاتبٌ قلمه!” فيشكر نعمة الله عليه -أن أعانه على جريانِ قلمِه ومُشاركة فِكره- بدوام استخدامها في طاعته ومَراضيه، فما أكثرَ الكُتّاب، غير أن الفروق ما بينهم كما بين السماء والأرض! فإذا عرفنا هذا؛ فلنلزم سبيلَ الـمُوفقّين.
جمانة ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب