عندما كنا أطفالاً صغاراً كانت أمهاتنا تحكي لنا قصصاً خرافيةً عن (الحنفيش) المتوحش الذي سيأتي ويخطفنا إن بقينا مستيقظين ،فنخلد للنوم ونحن نتخيل هذا الكائن المرعب واقفاً على إحدى النوافذ نخشى إنقضاضه علينا .
عندما كبرنا أيقنا أن هذا الحنفيش ليس بخرافة وهو ينقض ليفترس الأعمار والأمنيات دون أن يفرق بين ضحاياه ، فتحتضن الأمهات أطفالهن وكأنهن يتوسلن به لا تفترس أطفالنا وتتركنا أيها ” الحنفيش” ، لم يبق شيء يستحق أن نبقى لأجله !
فقد سد هذا الحنفيش كل نوافذ الحياة ، ولم يبق إلا نافذة واحدة دخل منها إلينا بصورة أبشع مما تخيلناه عندما كنا صغاراً، ودون سابق إنذار جاء خاطفاً مرعباً فتتزاحم الأسئلة المرعبة كصورته في أذهاننا ونحن نشاهد مناظر الأمهات والأطفال والكهول أشلاء متناثرة ومشوهة وطفلة تحمي رأس أخيها وهما تحت الأنقاض ومن لا يسمع إلا صوته المخنوق فيتلاشى رويداً رويداً حتى يختفي نبضه بظل العجز عن إيصال بصيص أمل له يدفعه للمقاومة ، ومن هو قد استقبل الحنفيش مبتسماً ليقول له لا أخشاك أيها الجبان فأنت لاتخيفني !
يرحل الليل المرعب ويأتي الصباح حزيناً دامياً لتتكشف أكثر حجم المأساة التي خطفت أرواح عوائل بأكملها وتركت أجسادها ممزقة تحت أنقاض مساكنهم ، فلا تكاد تقلب محطة أو صفحة على مواقع التواصل إلا ترى بها مايدمي القلب ويدمع العين ويخرج الدنيا من عينيك غير آسفٍ عليها ….ولولا التسليم بالقدر لأدخلتك الأسئلة المتزاحمة فيما لايحمد عقباه..
ماالذي فعله هذا الحنفيش بنا ؟، كيف باغتنا ونحن نيام؟ ، ألا يوجد غيرنا في هذا العالم ؟!
لماذا لم يذهب لغيرنا من المرفهين حولنا ، هل هو يعشقنا لهذا الحد الذي يقتلنا به ؟!
هي ليست مشاهد في فلم سينمائي بهوليود بل هي مشاهد حية كشفت حجم الألم والوجه المأساوي لهذه الفاجعة المباغتة ، ثوانٍ معدودة قلبت وجه المنطقة وحولت مسار الأحداث فيها وتصدرت نشرات الأخبار ،وكأن هذه الهزة الأرضية جاءت لتوقظ ما بقي من الضمائر الحية وتلفت الأنظار لمأساة شعبٍ آن لها أن تنتهي.
بين هذا وذاك يتعقد المشهد أمامنا ونحن نرى الكيل بمكيالين وتعامل العالم المجرم بمستويين مختلفين مع شعبين تعرضوا لذات الكارثة ، شعب قتله العالم قبل أن تقتله الكارثة وشعب رغم ألمنا عليه وماحل به لديه مالديه ليواجه هذه الكارثة غير منهك ولا خائر القوى ، لتسقط أقنعة المتشدقين بمعاني الإنسانية وتظهر وجوههم القبيحة بمجرد استغلال الأمر سياسياً على المنابر الدولية ، وتصريحات من هنا وهناك وجسور جوية وفرق إنقاذ وقوافل مساعدات وتبرعات سخية لتحط رحالها كلها بالجانب الآخر وكأنهم اعتادوا على أوجاعنا وألامنا فأداروا ظهورهم لنا ، وتزداد النكبة والشتات والتشرد والجوع والدموع … والحصار !
وكأن كل الطرق المؤدية إلى الحياة أصبحت غير سالكة بوجه السوريين بسبب تراكم الحنافيش ؟!
وكأن موتنا السوري لطول سكراتهِ أصبح جرحاً بارداً في اليتم كما يصفه ” منير خلف ” في بيتٍ عندما تقرأه تشعر بالقشعريرة لكمية الوجع المسكوب ودقة تصوير المشهد :
موتُنا السُّوريُّ جرحاً قد غدا
باردَاً في اليُتْمِ معصوبَ الأبِ
سنجمع شتاتنا تحت قسوة الظروف وبإمكاناتنا المتواضعة وبأيدينا العارية سنزيل كل هذا البؤس ، وسننهض مثل طائر الفينيق من تحت الرماد !.
عبدالكريم العفيدلي
* الحنفيش : كائن خرافي مخيف وضخم يرد في القصص الشعبي بوادي الفرات والجزيرة السورية .
مقالات سابقة للكاتب