ليلة استثنائية في رحاب الذكريات

(1) فاتحة:

قف يا زمان.. فهذه الأخبار
قد أُعْلِنت وسرى بها السُّمَّارُ

قالوا مضى زمن التعلم وانقضى
وتفرق الأصحاب.. والأخيار

تخذوا من التاريخ علم تخصصٍ
فَتَوَثَّقَتْ سبلٌ.. وطاب مسارُ

هذا (علي) سيحفنا بردائه
و(محمد العيسى)… هو الإيثار


نادوا نداء محبةٍ وزمالةٍ
ليحفنا هذا المسَاءَ وقارٌ

يا مرحباً.. إخوان صدقِ مودةٍ
من قلب (يوسف) يُعزَفُ القيثار(*)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)  من قصيدة طويلة.. سوف تنشر قريباً إن شاء الله!!

#   #   #

(2)

 … في ليلة استثنائية، يقف عندها التاريخ.. ويتغنى بها الزمن، وتوشك اللحظة أن تبني بها صروحاً من الجمال.. والغبطة.. والفأل الحسن!!

ليلة من ليالي العمر، تجلت فيها (الأخوة والزمالة والذكريات) لثلة من رفاق التمدرس الجامعي في كلية الشريعة وقسم التاريخ فرع جامعة الملك عبدالعزيز شطر مكة المكرمة. الذين تنادوا بعد خمسين عاماً – إلا قليلاً – من سنة تخرجهم عام 1396/1397هـ = 1976/1977م ليلتفوا في هذه الليلة المعتبرة تاجاً من الليالي المباركات.

كان هذا اللقاء حلماً يراودنا – نحن جميعاً خريجو القسم – وخاصة من جمعتهم الوظيفة التعليمية في جدة، ولكن كان ينقصنا من يعلق الجرس!! من يتبنى منصة من منصات وسائل التواصل الحديثة ويشكل فيها جماعة تواصلية للترتيب لهذا الأمر، وما

كان من أخينا وزميلنا الأستاذ الدكتور علي عبدالله بردي الزهراني – الملحق الثقافي السعودي في الأردن – وأستاذ الفلسفة التربوية بجامعة أم القرى سابقاً (والمتقاعد حالياً) إلا أن يبادر – كعادته – ويتواصل مع الجميع ليدعوهم إلى هذا اللقاء التاريخي، ودَعَّمَه في ذلك  الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالله العيسى – الملحق الثقافي في أمريكا- والمشرف على الوسائل التعليمية والتلفزيون التعليمي بجامعة أم القرى سابقاً (والمتقاعد حالياً).

اثنان (فقط) من عدد الخريجين الذين بلغ عددهم (ثلاثة وثلاثين) خريجاً عام 96/97هـ، قاموا بالمهمة، وهيأوا للقاء، وخططوا للنجاح فتحقق على يديهم ذلك والحمد لله. وهذه من سنن الحياة، فالمبادرون والمنجزون يعدون على الأصابع وعامة الناس هم المستفيدون.

لقد تعودنا – منذ سني التمدرس الجامعي – على الكاريزما التي يمتلكها كل من الطالبين علي بردي الزهراني ومحمد عبدالله العيسى وتفانيهما في خدمة الزملاء وأساتذة القسم، وامتد أثرهما على مستوى الكلية فكانا علمين بارزين طوال السنوات الأربع لشهادة البكالوريوس، مما هيأهما لمواصلة الدراسة الأكاديمية والابتعاث الخارجي والأعمال القيادية في الإدارة والتخطيط والثقافة وامتدت معهما هذه الكاريزما المبادراتية والتفاعلية الإيجابية ليتحقق على يديهما هذا الاجتماع الرائع تنظيماً وإعداداً وتنفيذاً، فجزاهما الله خير الجزاء.

#   #   #

(3)

ومع الساعة الخامسة عصر الجمعة 12/4/1445هـ = 27/10/2023م كنت أول الواصلين إلى مقر الاجتماع والاستضافة وهي دارة فاخرة وأنيقة بمسمى (استراحة) لسعادة الأخ الدكتور محمد العيسى الذي وجدته في استقبالي مع الدكتور علي بردي الزهراني وأضفيا عليَّ البهجة والسرور ما ذكَّرنا بأيام الجامعة وفضاءاتها الأخوية وميادينها المعرفية وزمالتهما الطلابية ومشاعرهما الحميمية رغم طول المدة التي افترقنا فيها بعد التخرج.

واستمرت هذه المشاعر النفسية تتغشانا كلما قدم زميل بمفرده أو مجموعة زملاء، حتى تجمعنا واكتمل نصابنا مع صلاة المغرب حوالي (عشرين) أستاذاً ما بين حامل لشهادة (الدكتوراه) ومتوقف عند (الماجستير)، ومكتف بـ(البكالوريوس) الجامعية والوظيفة التعليمية سواءً في الجامعات أو التعليم العام. إلا أن الذي جمعنا، ويجمعنا هو الحب والزمالة والأخوة التي لا تنفصم عراها، بل تزداد وثوقاً مع تقلب الأيام والمواقع والاهتمامات ويتوجها الولاء للوطن وخدمته طوال خمسين عاماً – إلا قليلاً – في مواقع المسؤولية والقيادة والإدارة التربوية والتعليم العام والجامعات والملحقيات الثقافية حتى جاء موعد التقاعد النظامي والاستراحة التي لابد منها، إلا أن عطاءنا مازال يتنامى عبر المنصات الاجتماعية والخيرية والتطوعية كلٌّ في مجاله إيماناً بقيمة الوطن وقيادته الرشيدة وحقه علينا مادمنا على قيد الحياة والقدرة على العطاء والبناء!!

لقد أوحت لي هذه المناسبة باختراع عنوان لها وهو (لقاء الأخوة والزمالة.. والذكريات) الذي جعلته شعاراً لورقة العمل المقدمة في هذا اللقاء بعنوان: (الذاكرة البصرية/ ذكريات وتعليقات)، وخلفية للقصيدة الترحيبية التي ألقيتها بعنوان (من قلب (يوسف) يعزف القيثار).

وكان من أجمل المشاهد التي ارتسمت في ذاكرتي ساعة وصول الزملاء وتقابلهم الحميمي بعد هذه المدة الطويلة من الفراق، تلك المشاعر الأخوية، والعبارات الإنسانية والقبلات المتبادلة، والاحتضانات الدافئة، والمعاتبات البريئة، والذكريات المؤنسة، فالذكر للإنسان عمر ثاني – كما يقول شاعرنا العربي الكبير أحمد شوقي – يرحمه الله.

جميلة تلك اللحظات بفضاءاتها الإنسانية، تلك التي نفتقدها في زحمة الانشغالات والعمل والتيبس العاطفي!! ولكن ما إن تحين الفرصة حتى تتجلى هذه المشاعر وينتاب القلوب وجيب حبيب للنفس والفؤاد. فشكراً لكل من قرب المسافات، وجمع الأحباب، وارتقى بالمشاعر إلى هذه الدرجة من الإنسانية والأخوية والحميمية.

 #   #   #

  (4)

خمسون مرت ما اجتمعنا إنما
خمسون عاماً؟! يالها من مدةٍ
حتى أتى (بَرَدِيْ) وقال تهيأوا
و(أبو سعودٍ) قال هيَّا مرحباً
فتأهب الجمع الحبيب لجمعةٍ

 

الحب والذكر الجميل شعار
ما جمعتنا ديرة أو دار
إن اللقاء محبة تذكار
بلقائكم.. يا خير من قد زاروا
هي غاية الآمال وهي منار

ساعة كاملة، تجاذب الزملاء فيها أحاديث الذكريات، وتبادل النعوت والصفات، وابتسموا وتعالت الضحكات، وهم في سعادة وبهجة وأجمل الراحات!!

ولما رأيت الزمن يأخذنا، واكتمال الجماعة يدعونا لتوحيد البوصلة، طلبت من مضيفينا الدكتورين محمد العيسى وعلي البردي أن تُوَحَّد الجلسة وأفاجئ الجميع بقصيدة ترحيبية، منها الأبيات السالفة والتي تفاعلوا معها تصقيفاً وثناءً واسترجاعاً، فهي تمس واقعنا وتتحدث عن مسيرتنا الطلابية، وانطلاقتنا الحياتية وفيها أقول:

كانوا على درب التعلم إخوة
كانوا على سمع الزمان قصيدة
كانوا يمدون المدى بسؤالهم
وتخرجوا كلٌّ مضى في غاية
ومضوا يشقون الحياة تكسباً
حتى إذا بلغ الزمان نصابه

 

يتنافسون وسيفهم بتار
واليوم تكتب فيهم الأشعار
وجوابهم في العالمين فخار
يحدوهم الإنجاز والإعمار
تغشاهم الأفراح والأكدار
قيل اقعدوا… لقد انتهى المشوار

 

ثم استأذنت في بدء عرض الورقة العلمية التي أعددتها وهي بعنوان: (الذاكرة البصرية، ذكريات وتعليقات).. وقد كانت صوراً تاريخية لرحلاتنا الطلابية، وزياراتنا التاريخية ولقاءاتنا الاجتماعية، فاشتعل الحوار والتعليق والذكريات وقضينا أكثر من عشرين دقيقة في هذه الفعالية التي أعادت إلينا زمناً مضى، وكانت الذاكرة الاسترجاعية البصرية خير مسعف بمزيد من التواصل الإيجابي واللقاء الأخوي الماضوي. ولما انتهينا من هذه الفعالية العلمية/ التاريخية/ التذكارية انتقلنا إلى مجلس آخر وإلى فعالية جديدة رتب لها مضيفينا حفظهما الله.

#   #   #

(5)

وانتقلنا إلى المجلس الجديد، وبدأت الثنائيات، والثلاثيات والرباعيات في اجتماعات مصغرة، هذا يتذكر، وذاك يسأل، وآخر مجيب، وهذا يذكِّر وذاك يستجيب ويحاور والنقاش يحتدم وأنا أصغي السمع بين الفينة والأخرى لأجد الحب والود والزمالة تفرض نفسها، والأخوة تتجدد، ولكن مضيفينا لم يتركا هذه المسألة تستمر وتأخذ ماتبقى من الوقت، فاقترحت عليهما أن توحد الجلسة ونستمع إلى الجميع في تعريف مختصر بالمحطات والتمرحلات الحياتية التي مر بها منذ التخرج وحتى اليوم، واستلم إدارة الجلسة والوقت الأخ الدكتور علي بردي الزهراني، وتحدث الجميع بعضهم أطال في مساراته الحياتية، وبعضهم اختصر وبعضهم تحدث عن الأمراض التي عاناها في آخر مشواره الحياتي، وبعضهم وقف عند البدايات الوظيفية ومعاناتهم مع الوزارات والمسؤولين والدكتور علي بردي يزيد في الاستفسارات والتساؤلات المحفزة على إظهار الأسرار وكل ذلك في تراتبية جمالية وأخوية.

ويمكن إيجاز ما تمخض عن ذلك كله في نتائج وخلاصات مختصرة ومكثفة وأمينة إن شاء الله:

أولاً: أغلبنا عانى من البدايات الوظيفية والحيرة في الاختيار بين العمل التعليمي أو الاتجاه للجامعات وإكمال الدراسات.

ثانياً: البعض وُفق في الوظيفة التعليمية مدرساً في وزارة المعارف ومتنقلاً في وظائفها التدريسية والإدارية والإشرافية حتى انتهى به المطاف مديراً لمدرسة، أو وكيلاً لها، أو مشرفاً تربوياً قيادياً تعليمياً.

ثالثاً: البعض بدأ بالتدريس ثم انتقل للجامعة معيداً ثم مبتعثاً للماجستير والدكتوراه ثم العودة للجامعة في السلك الأكاديمي أو القيادي أو الملحقيات الثقافية في الخارج.

رابعاً: البعض تحول للعسكرية أو الأعمال القيادية والتدريبية في مجالات غير تعليمية وإن كانت مرتبطة بها.

خامساً: الجميع تزوج وأنجب ما بين خمسة إلى سبعة من الأولاد ذكوراً وإناثاً وكلهم في كيانات أسرية متماسكة وحالة اجتماعية مستقرة عمرانية ووظيفية.

سادساً: الجميع (بلا استثناء) أثنوا على المضيفين وجهودهما في الترتيب والتنظيم والإكرام والاستضافة والدعوة لاستمرار هذه الاجتماعات وتشكيل منصة اجتماعية للتواصل وقد تبنى هذا المشروع التقني الزميل الأستاذ عايض العرابي الحارثي حفظه الله.

سابعاً: اتضح الانسجام والتآلف بين الجميع، وروح المحبة التي سادت اللقاء والإخاء الذي توج الذكريات والتعليقات.

ثامناً: قدمت هدية علمية معرفية للجميع وهي عبارة عن خمسة من كتبي التاريخية والأدبية والتربوية فتقبلوها بكل محبة واهتمام.

تاسعاً: كان من أميز الحاضرين الزميل الأخ الدكتور سعد بن مريسي الحارثي الذي حضر خصيصاً من الجبيل إلى جدة لهذه المناسبة والأستاذ الزميل عبدالرزاق خضر الزهراني الذي حضر من الباحة استجابة لهذه المناسبة.

عاشراً: اعتذر عن الحضور الدكتور نبيل رضوان رغم حرصه على الحضور لكن ظروفه تغلبت عليه.

حادي عشر: ابتهج الجميع بحضور مجموعة الطائف في سيارة واحدة وهذا دليل على التآلف والمحبة والانسجام.

ثاني عشر: أعجب الجميع بالعرض المرئي المصور عن ذكريات الرحلات التاريخية إلى كل من عسير وال…. التي قدمها الدكتور يوسف العارف في ورقة علمية بعنوان: (الذاكرة البصرية/ ذكريات وتعليقات).

ثالث عشر: اتفق الجميع على أن تستمر هذه الاجتماعات في دورات متجددة ويدعى لها باقي الزملاء الخريجين مرة في الطائف ومرةً في جدة حسب الإمكان والاستطاعة.

وأخيراً ختمت هذه الجلسة بالعشاء الفاخر الذي أعد خصيصاً لهذه المناسبة بكرم حاتمي من الدكتورين العزيزين محمد العيسى (أبو سعود) وعلي بردي (أبو نزار).

وبعد (كثر الله خيركم وخلف عليكم) غادر من غادر، وبقي من بقي لاستكمال السهرة مع مباراة الهلال والأهلي والتي اتضحت فيها الميول الكروية لهذه المجموعة المثالية!!

#   #   #

وختاماً:

فلله الحمد والمنَّة أن جمعنا بعد طول فراق، والتقينا على صحة وعافية وستر ومحبة وانسجام.

وإلى لقاء جديد قريب.

والحمد لله رب العالمين.

د. يوسف حسن العارف

جدة/ مساء السبت

14/4/1445هـ

 

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *