ما يتوارى عن الإفصاح

بعد ثلاث ساعات من الفرفرة في أروقة معرض الكتاب، أنا التي شربت من الحماس بقدرٍ أشبعني عن وجبة الإفطار، واستنفد كل ما لدي من مالٍ وطاقة، حتى أني ‏بت أرى الكتب تتراقص حولي في دوائر، فترنحت من التعب وصولًا إلى ممرّ قابع في طرفِ المعرض، استوقفني فيه أحد المنظمين يسألني عن وجهتي، تلفت منتبهة فجأة، إذ كأنه قاطع بصوته تنويمًا مغناطيسيًا عميقًا كان يجري باتجاهي، يقودني إلى حيث كان ينبغي أن أكون..

تبين أنني أقف أمام قاعة تقام فيها ورش تابعة للمعرض، وصادف توقيت دخولي بداية أحدها بعنوان “الفن والطفل” دخلت الورشة وكل هدفي يتمحور حول إيجاد كرسي أستريح عليه، ولم أكن لأُمانع الفائدة كقيمة إضافية ريثما ألتقط أنفاسي، تفحصت بنظري القاعة بحثًا عن مقعدي الاستراتيجي، بعيدًا عن المقدمة، مختبئ خلف الحضور لكن يوفر رؤية مباشرة للمحاضِرة، ونقطة عمياء عن الكاميرا الموثقة للحدث، نعم وجدته! رابع مقعد أمام الجدار، جلست ألتقط أنفاسي.

بدأت المحاضِرة تتحدث عن رسوم الأطفال ومعانيها، وعن كونها لا تعكس فقط مشاعر الطفل ودواخله، بل تصف بدقة وضع/ملامح محيطه والواقع الذي يعايشه مثل: الحالة الاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها من المؤشرات الديموغرافية، فمثلا عندما يترك الطفل مساحة فراغ كبيرة في الورقة، ويحشد رسمه في أحد زواياها، يتضح لنا شعور الطفل بضيق المساحة حوله في المنزل، وبالتالي يكون ذلك مؤشرًا على صغر حجم البيت.

ولا تكتفِ بذلك بل أنها تصف حتى الحالة العاطفية التي تجمع أصحاب المنزل، فحين يرسم الطفل نفسه صغيرًا جدًا، أو كبيرًا يبدأ بالتصاغر، فهو يحاول تصوير مكانته القابعة في نفوس أفراد عائلته كما يستشعرها من زاويته، أو حين يرسم الطفل أفراد المنزل كلٌ في زاوية بعيدة عن الآخر؛ كأنه يشير إلى تباعدهم وانفصالهم العاطفي عن بعضهم البعض، ومكوثهم في غرفهم طوال الوقت وما شابه من الدلائل التي يمكن استنباطها من هذه الرسومات، ثم لفظت المحاضِرة أخيرًا الجملة التي دفعت عقلي للقفز إلى استنتاجاته الخاصة: ” يعكس الأطفال ما لا يمكنهم قوله من خلال الرسم، يعرف الطفل كيف يتحايل لفظًا لكنه لا يملك أن يتحايل رمزًا”

شخصيًا أرى أن ذلك ينطبق علينا نحن الكبار أيضا، جميعنا أمام الورق تنكشف إعتلالاتنا، وليس الورق وحده ما يظهرها. فبالرغم من قدرتنا نحن الكبار على التحايل حتى على أنفسنا، إلا أن تصرفاتنا تُسقِط سهوًا ما يرمز إلى حقيقة دواخلنا. هناك شواهد واقعية عديدة على ذلك، كأن يقول أحد زملائك مترفعًا بنبرة مهايطية ” آخر همي فلان ” وفي الواقع، إن كل ما يتكلم عنه هو ذلك -الفلان- دالًا على شعوره الدفين بالغبن منه، أو حين تسخر إحداهن من النساء المتزوجات وصدمتهن بأزواجهن؛ متنكرة بذلك عن شعورها بالنقص لعدم خوضها تجربة الزواج كقريناتِها.

أو في تلك اللحظات التي تُسَخّر نفسك فيها لفكرة ما عمرًا كاملاً، ثم تلجأ لفرضها على من حولك قسرًا؛ هاربًا من شكك بيقين مفتعل. أو حين يكسو أحدهم شعوره لباس نكتةٍ ساخرة؛ حتى لا تظهر مشاعره كحقيقة تستدعي الانتباه، إلا أن داخله يتوق إلى الاحتواء، وكأن الشعور من فرط الإحكام عليه يتحين الفرص ليلتقط أنفاسه بتلك النكتة، ثم يعاود الغوص في العمق من جديد.

يجمع بين كل ذلك شيء واحد: جدار الكبرياء الذي يتوارى الإنسان خلفه، حيث تختبئ مشاعره وأصدق رغباته، فينصرف بها عن مركزها المحوري في الحياة، لينصُبَ غروره بدًلا عنها، فلا تعود الحياة ومعانيها تدور حول ذلك الإنسان، بل حول هذه الصورة الزائفة، وتلك الحقيقة الواهمة، وذلك الاسم الذي يسعى جاهدًا لحمايته من أن ينكسر..

 

 

هند ياسر شفيع

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *