حتى لا ننسى

قريب العهد والصلة بالقرآن يختلف عن غيره! وأعني بالقُرب هنا دائم التلاوة، حاضر الذهن في الآيات المستوعب لكُليات معانيها.

هذا المسلم يُحسن إلى نفسه بأن يُجدد فيها التذكير بالأصول والركائز الكبرى: فالتوحيد في تصوّره مفتاح الفلاح، والشرك عنده مذموم مكروه، والأنبياء قدوة لا تُقبل منقصتهم بكلمة، والصلاة عامود الدين، والناس قسّمهم الله جل وعلا إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين؛ ولكلٍ تعامله الدنيوي ومصيره الأخروي المختلف، واليهود مغضوب عليهم ونعرف كثيرًا من صفاتهم، والنصارى ضالّون وهم أقرب إلينا من يهود، وأننا أُمرنا أن نسأل الله كل يومٍ في صلواتنا ألا يجعلنا نسلك سبيلهما، وأن كل مَن عاد وآب قبِله الله وتاب عليه إن صدق، وأن الجنة حق والنار حق.

وكلنا بلا استثناء آتين يوم القيامة فُرادى ولن يُغني عنّا الكبراء شيئًا، وأن هذه الدنيا لهوٌ ولعب؛ علينا أن نتذكر دائمًا أنها محطة ومعبر للآخرة، وأن الشيطان هو عدونا المشترك والحقيقي والأكيد، وأن له في إغرائه وكيده خُطوات، ويأتمر بأمره أولياء وأتباع، وأن النصيحة فضيلة واجبة، وأن الله سمّانا مسلمين وجعلنا إخوةً في الدين وجعل لهذه الأخوة حقوقًا، ولم يرضَ لنا أن نُقدّم التجمع على نسبٍ أو لغةٍ أو عرق -أو غيرهم من باب أولى- على تجمع الإسلام، بل على الدين نجتمع قبل أي رابطة.

وأن الله عز وجل له المَثل الأعلى، وأنه على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، وأن الدعاء حق وسببٌ من جملة الأسباب، وأن للساعة علامات، وأنها آتية لا ريب، وأن فيها يُحصّل ويُظهر حقيقة ما في الصدور.

وغيرها من الأسس المبسوطة البيّنة من الفاتحة إلى الناس.

فالذي لا يعرف القرآن إلا من رمضان إلى رمضان، ولا يسمع الوعظ والتذكير إلا من الجمعة إلى الجمعة؛ كيف سيكون حضور هذه المعاني لديه -إن لم يكن لديه أي مُذكّر آخر-؟ فما حال من لا يقرأ القرآن أصلًا، ولا يحضر أي خطبة أو مجلس يُذكر فيه اسم الله؟ بل ولا يعترف بالناصح والواعظ ولا يقبل منهما شيئًا؟!

قيل: إن من أسباب تسمية الإنسان بالإنسان أنه ينسى! فنحن بحاجة دائمة إلى ما يُذكّرنا ومَن يُذّكرنا. أو أن نأخذ هذه المهمة على عاتقنا فنتعاهد أنفسنا بالقرآن أو حِلق العلم أو غيرهما.. نحن مع هذه المُذكّرات الواعظات ننسى الكثير؛ فكيف بدونها؟

قال الله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} يقول الشيخ ابن سعدي في تفسيره للآية:

“والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مُجمله بالفطر والعقول فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل أمر ونهي من الشرع، فإنه من التذكير، وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به، من الخير والحسن والمصالح، وما في المنهي عنه، من المضار.

والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيذكرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه، من ذلك، وليحدث لهم نشاطًا وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع.

وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة، واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئًا…” انتهى كلامه رحمه الله.

اللهم اجعلنا ممن إذا تذكّر أو ذُكّر انتفع بالذكرى.

جمانة بنت ثروت كتبي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *