تَعلّمُوهُن

منذ أن وصلتني باقة الورد الأبيض بداية الأسبوع وأنا أشتهي أن أكتب؛ لكن لم أجد عُدّةً كافية ولا محاور وافية، ولا استوت أفكاري ولا انتظمت بحبلٍ ناظمٍ يجمعها كما جمعت الشريطة باقة الورد الأنيقة. وتوالت الأيام وانتهى الأسبوع -أو أوشك- بكل ما فيه من مهام ومواقف ومشاعر، وصار من الماضي بعد أن كان من الحاضر، ولم أهِمّ بكتابة شيء؛ حتى رأيتُ أناسًا لم أرهم لسنوات، وقلتُ ضاحكة “كلهم كبروا!” فكانت تلك الرؤية هي الباعثة!

قال ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- في مداواة النفوس: “تطلّبتُ غرضًا استوى الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلا واحدًا، وهو طرد الهمّ. فلما تدبرته علمتُ أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتُهم -على اختلاف أهوائهم ومطالبهم، وتباين هممهم وإرادتهم- لا يتحرّكون حركةً أصلًا إلا فيما يرجون به طرده، ولا ينطقون بكلمةٍ أصلًا إلا فيما يُعانون به إزاحته عن أنفسهم، فمن مخطئٍ وجه سبيله، ومن مُقاربٍ للخطأ، ومن مُصيب، وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.” ص22 ثم سبر وقسّم أغراض الناس -من خير أو شر- وبيّن أنهم لا يشتركون في واحدٍ منها؛ ليخلص بهذا إلى أن “ليس في العالَم مذ كان إلى أن يتناهى أحدٌ يستحسن الهمّ، ولا يريد طرده عن نفسه!” ص24 ويسهل أن نقرّ ابن حزم في ملاحظته إذا علمنا أن هذه الدنيا قد جُبلت على الكَدَر، وأن الإنسان خُلق في كَبَد، مع التسليم بأن الناس كما يتفاوتون في هِمَمهم وإراداتهم وأرزاقهم فهم لا شك متفاوتون في همومهم، ومختلفون في استيعابهم لها وتعاملهم معها.

ولعله -رحمه الله- تجاوز ذكر سُبل الناس مع همومهم؛ ليصفو ذهن القارئ في تلقي النهج الأنجع والسبيل الأقوم، فقال: “فاعلم أنه مطلوبٌ واحد، وهو طردُ الهمّ، وليس له إلا طريقٌ واحدٌ وهو العمل لله، فما عدا هذا فضلال وسُخف.” ص27 ولربما يكون إيغال المرء في السنوات الطِوال مُقربًا له إلى هذه الطريقة؛ إذ قد يكون أيام صباه قد جرّب طُرقًا أخرى مع همومه، فشل الحلّ في بعضها ونجح مع أخرى؛ إلا أنّ السنوات المتتالية على المرء كفيلةٌ بأن تدعوه لإعادة النظر في أمورٍ كثيرة، ولعل لهذا يقرب الناس إلى الله تعالى كلما كبرت أعمارهم. ولكل قاعدة شواذ. 

من الهموم همٌّ ذو ضجيجٍ وصخب؛ فتجعله هذه الخصلة همًّا معلومًا لدى الناس لطبيعته البيّنة، حينًا بين المقرّبين وأخرى لدى عموم الآدميين. وهذا النوع من الهموم جلاؤه له قدرٌ من الإعانة في تخفيفه، كالمرض مثلًا، فالعلم بالمريض لو أُحسن التعامل معه من قبل المحيطين به؛ يتخفّف صاحبه من بعض تبعاته. أما النوع الآخر من الهموم فهو الهمّ الصامت؛ الذي لا يُحَسّ به ولا يُسمع له رِكز! وهذا الخفاء يجعل صاحب الهمّ عُرضةً لانتكاس حاله إن قيل له أو فُعل له ما لا يناسبه؛ فالناس لا يعلمون أنهم يضرّونه من حيث لا يشعرون، فهو ليس كالمريض الذي سيتعاملون معه بحسب مرضه، وليس كالفقير الذي لا يُتباهى عنده بمظاهر الترف، ولا كاليتيم الذي لا يُفاخر أمامه بعزة الآباء ومودتهم. هناك أشياء لا تُقال؛ لتبقى حصرًا على ذَويها.

ولا يُعقل هذا المعنى إلا بالمفاجأة برؤية الهموم الصامتة بغتة، أو سماعها من أصحابها في لحظة رقّة، أو أن يكون المرء من أهلها ولا يجد لتنفسيها سبيلًا؛ إلا سبيل الله جلّ وعلا. الحكمة هنا أنك إن كنت مندهشًا من خبرهم؛ ألا تقول لإنسان: “ايش عندك؟” على سبيل الاستهزاء بحاله، وأنه لا يعرف شيئًا من الهموم! والحكمة هنا لمن ابتُلي بشيءٍ من الهمّ الصامت؛ أن يُدرك أنه ليس بمفرده؛ وأن على هذه الأرض من أصناف الهموم الخفيّة والجليّة الكثير! فليستحضر هذا مع الأخذ بالأسباب الأخرى من دعاء وغيره؛ فإن تصوّر المرء عن مشكلة ما أنه الوحيد بها؛ يُفاقمها أضعافًا مضاعفة.

كم في تلك الوجوه من بقايا هموم سابقة وأخرى حاضرة؟ كم تُخبئ تلك البسمات من لحظات ضعفٍ لم يَشهدها أحد! أيا تُرى في خصلات شيبهم قبل عُمر المشيب دلالة؟ أو يا ترى في تقليل اجتماعهم بالخلق وإيثارهم العُزلة إشارة؟ نستغفر الله من ظنون سيئة لا تزال تحول بين بني آدم وخاصّتم دون أن يشعروا.

والحمد لله الذي رَحِم عباده بكتابِه؛ فمَلأه قصصًا وعبرًا وهدايات؛ تأخذ بدورها قلوب المهمومين فتُسكّنها، وتهدي بحكمتها أفئدة المكلومين فتنوّرها. فلا تحرمنّ نفسك دوائها وغذائها؛ ولا تُضيّق عليها بحرمانها من وحي الله. ولعله لهذا المعنى اقترن دعاء الهم بالقرآن! إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أصاب عبدًا همٌ ولا حزن، فقال: (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي). إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا”. قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: “بلى، ينبغي لـمَن سمعهن أن يتعلّمهن” [رواه أحمد وصححه الألباني]. المؤكد أن هذا الدعاء تضمن أمورًا عظيمة ينبغي أن يستحضرها صاحب الهمّ ويُحيي قلبه بها، فتضمن الاعتراف لله بالعبودية والضعف، وتحت هذا الاعتراف كأنه يقول: “إني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لي مَن أعوذ به وألوذ به غيرَ سيدي الذي أنا أعبده” [الفوائد، ابن القيم] بل وجاء صراحةً في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه أن يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن” [رواه البخاري].

وكأننا هنا نعود إلى الطريق الأوحد لطرد الهمّ الذي أجمله ابن حزم في قوله “العمل لله”؟ فالعمل لله هو أن نُوّحده، ونعوذ به، ونلجأ إليه، ونسأله أن يزيل عنّا ما أهمّنا؛ لتمام مُلكه وكمال قدرته. إن هذين الدعاءَين النبويين لعلاج الهمّ لهما مُذكِّران بحقيقة الربوبية والعبودية الأكيدة، بينما سُبل الناس الأخرى التي يتعاملون بها مع همومهم هي في غالبها مجرد مُشغِلة ومُسكّنة! ويا لسعدنا، فما أجمَله ابن حزم؛ بَسَطه ابن القيّم. قال ابن القيم -رحمه الله- عن دواء الهمّ والغمّ والحزن: “تنوّع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها، وتباينت طرقهم في ذلك تباينًا لا يحصيه إلا الله، بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهّم أنه يخلصه منها. وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا تزيدها إلا شدّة، كمَن يتداوى منها بالمعاصي على اختلاف أنواعها، من أكبر كبائرها إلى أصغرها، وكمَن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك، فأكثر سعي بني آدم، أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلّص منها. وكلهم قد أخطأ الطريق، إلا مَن سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركّب من مجموع أمور، متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره. وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار..” [شفاء العليل، ابن القيم] فشتّان بين دواء خاطئٍ مسموم ودواء حقيقيٍ معلوم.

كل هذا في شأن الهموم الحقيقة لا الوهمية، فإن كان الوهم قد تطرق لشؤون، فليس بغافل عن الهموم. وأحوال بعض الناس صريحةٌ في غرقهم في تفاهاتٍ عدّوها همًّا! نسوا عيد ميلادها! خسر فريقه المفضّل المباراة! وقِس على هذين المثالَين مما تشاهد وتسمع! ولا أبالغ بعدّ هذين مثالين على الهموم عند أصحابها، فبمقاييسهم هذه الأحداث تترتب عليها أحزان وانتكاسات وتصرفات لا تُحمد! فنسأل الله العافية.

إن كل همومنا فُرادى مهما عظُمت فهي بجانب الهموم الجماعية التي تشملنا كأمة تُعد يسيرة! فكيف بأمور تافهة سببها خلل معايير أصحابها، فلا يُميزون بين حاجة وترف؟ لعلهم ما ضبطوا حدّ الهمّ؛ فلم يستوعبوه بعد ولم يُدرِكوه!

“والهمّ يخترمُ الجسيمَ نحافةً … ويُشيبُ ناصيةَ الصبيّ ويُهرِم” [المتنبي]

اللهم إنّا نعوذ بك من الهمّ والحزن، ونعوذ بك من أن تكون الدنيا أكبر همّنا ومبلغ عِلمنا. الله فرّج همومنا وهموم إخواننا المسلمين في كل مكان، أنت الـمُقدِّم وأنت الـمُؤخّر وأنت على كل شيءٍ قدير.

 جمانة بنت ثروت كتبي

 

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *