كان أحد الآباء يستعد للاحتفال بزواج ولده وفلذة كبده الوحيد الذي وُلد بعد عشرين عاماً من زواجه، كل الجيران يعلمون جيدًا مدى حب الأب لابنه وكيف كان مشغولًا للتحضير لهذا اليوم السعيد.
دعا جميع جيرانه لوليمة الغداء، لكن جاره الملاصق لبيته لم يحضر أحد منهم إلا الابن الصغير، حضر وبسرعة خرج من الوليمة بعد أن أكل منها القليل.
كان والد العريس يراقب المشهد، ويتسائل: ما هذا الجار الذي لا يقف مع جاره في هذا الموقف؟
وما هذا الجار الذي لم يحضر أبوهم أو حتى الولد الكبير على الأقل؟
ولماذا أكل الولد الصغير بهذه السرعة، وغادر وترك الفرح؟
أصاب والد العريس الانزعاج من جاره ومرت على ذهنه خواطر كثيرة ..
بعد اكتمال الوليمة شرع المدعوون في إحضار السيارات لجلب العروس من بيت أبيها، وفي تلك الأثناء جاء الابن الصغير لجاره بسيارته للمساهمة في زفاف العروسين، لكن والد العريس رفض بانزعاج،
وقال له: لا نريد مشاركتكم، عندنا سيارات كثيرة، سكت الولد ولم ينطق بحرف واحد.
في تلك الأثناء لمح والد العريس حركة غير عادية وغريبة في بيت جاره، أثناء فتح الباب عندما ركن الابن الأصغر سيارته عند بيتهم، وأراد أن يسأله، ولكن تذكَّر موقفهم السلبي فتركه.
بعد العشاء وإكمال مراسيم الفرح، و بعد أن غادر جميع المدعوين إلى العرس وعادوا أدراجهم، وإذ بجنازة، تخرج من بيت جاره من غير عويل ولا صراخ ولا ضجيج.
فسأل والد العريس من المتوفى؟
فرد عليه الابن الكبير لجاره إنه والدي توفى ظهر اليوم، وعند شعوره بالوفاة أوصانا بالحفاظ على الهدوء وعدم إظهار الحزن إذا وافاه الأجل؛ لتكتمل فرحتكم بولدكم، لأنه يعرف مدى حبك لولدك الوحيد، وأوصانا والدي أن تخرج الجنازة بعد انتهاء الفرح حتى لا تتعكر فرحتكم.
هنا وقعت الحادثة كالصاعقة على والد العريس عندما ظن السوء بجيرانه، وقال: والله لو كنت أنا مافعلتها، ولكن الرجولة لها أهلها ولا يفعلها إلا الرجال.
إن من أشد الظلم هو أن تسيء الظن بشخص بريئ، ولا تلتمس له الأعذار.
قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضًا﴾.
الشيخ وجبر الخواطر
والدكتور حسام موافي، هو واحد من أشهر دكاترة الباطنة في مصر والوطن العربي، يحكي هذا الحوار الذي دار بينه وبين فضيلة احد المشايخ المعروفين في مصر ولم يرد الدكتور ذكر اسمه رحمه الله حيا او ميتا إنه ذات مرة اتصل عليه الشيخ رحمه الله ليحجز للكشف في العيادة، فقال: لا والله يا مولانا، أنا سآتي إلى بيتك، وبعد الكشف سأله الدكتور عن أفضل عبادة تقربه من الله، سيما أنه في أواخر عمره، فقال له الشيخ: فكِّر أنت، فقال الدكتور حسام: الصلاة، قال له الشيخ: لا، قال الدكتور: الصيام، قال له الشيخ: لا، قال الدكتور: العمرة، قال: لا، أفضل عبادة هي جبر الخاطر، قال الدكتور: كيف يا مولانا؟ وما دليلك؟ قال الشيخ: مَن ألعن ممن يكذب بالدين؟ قال الدكتور: لا أحد، قال الشيخ: يقول الله: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴾ ﴿ الماعون: 1]، ماذا يفعل؟ ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ [الماعون: 2]؛ يعني: يكسر خاطر اليتيم، ﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الماعون: 3]، يعني: يطرد المساكين، ولا يجبر خواطرهم، ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾ [الماعون: 4]، فجعل أمر الصلاة الأمر الثالث بعد أمرين كان فيهما جبر للخواطر، ثم يتابع الدكتور موافي أنه في يوم إجازته تذكر مكالمة جاءت من جاره يقول له : “اجبر خاطر يا دكتور حاول الذهاب إلى حماتي عندك في المستشفى مريضة، اطمن عليها وطمنا”، يقول: فتذكرت نصيحة الشيخ : ( اجبر خاطرًا )، وجاءت كلمة جبر الخاطر على لسان جاري، فأحسست أنه إشارة من الله، فقررت الذهاب إلى المستشفى لأطمئن على حماته، وعندما كنت في المستشفى، شعرت بألم شديد في صدري، لقد كانت جلطة في الشريان التاجي، فأعطاني الدكتور الدواء وأنقذني من الجلطة، فلو أن تلك الجلطة جاءتني ولم أكن في المستشفى، لكنت ميتًا، فكأن الله يقول لي: كما جبرت بخاطر جارك، جبرتُ أنا بخاطرك وأنقذت حياتك.
قصة جابر عثرات الكرام
روى صاحب كتاب “عيون الأخبار” في الجزء الأول صفحة ثلاثمائة وتسع وثلاثين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأ”. وهذا من جميل ما قيل في أهل المعروف، وجميل صنع الله بهم، وحفظ الله لهم، ومن تتبع مثل هذا وقف على عجيب من المواقف والقصص.
ومن جميل وعجيب ما ذكر في هذا الباب ما ذكره ابن حجة الحموي في كتابه “ثمرات الأوراق” (151-153)، وذكره أيضا التنوخي في “المستجاد من فعلات الأجواد” (6-8).. وقد ذكره أيضا أبو الحسن بن هذيل في كتاب “عين الأدب والسياسة وزين الحسب والسياسة” صفحة 199 مع اختلاف في الشخصيات، فذكروا جميعا ما خلاصته:
أنه كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل من بني أسد يقال له “خزيمة بن بشر”، وكان مشهورا بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يواسيهم ويتفضل عليهم، فواسوه حينا ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته ـ وكانت ابنة عمه ـ فقال لها: يا بنت العم! قد رأيت من إخواني تغيُّرا، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم أغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد، وبقي حائرا في حاله.
وكان عكرمة الفياض (سمي بذلك لفرط كرمه) واليا على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه، إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار في أسوأ الأحوال، وقد أغلق بابه، ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: فما وجد خزيمة بن بشر مواسيا ولا مكافئا؟
فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سراً من أهله، فركب ومعه غلام واحد يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه، وتقدم
إلى الباب فطرقه بنفسه، فخرج خزيمة فقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلا، فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له: من أنت جُعلت فداك؟ قال له: ما جئت في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني، قال خزيمة: فما أقبله أو تخبرني من أنت؟ قال: أنا جابر عثرات الكرام، قال: زدني، قال: لا، ثم مضى.
ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج، فلو كان في هذا فلوس كانت كثيرة، قومي فاسرجي، قالت: لا سبيل إلى السراج، فبات يلمس الكيس فيجد تحت يده خشونة الدنانير.
ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته، وسألت عنه، فأُخبرت بركوبه منفرداً، فارتابت، فلما رآها تلك الحالة قال لها: ما دهاك يا ابنة العم؟ قالت: سوء فعلك بابنة عمك، أمير الجزيرة لا يخرج بعد هدأة من الليل منفرداً عن غلمانه في سرّ من أهله إلا إلى زوجة أو سريّة؟ فقال: لقد علم الله ما خرجتُ لواحدة منهما، قالت: لابد أن تُعلمني، قال: فاكتميه إذاً، قالت: أفعل، فأخبرها بالقصة على وجهها.
ثم أصبح خزيمة فصالح غرماءه، وأصلح من حاله، ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهوراً لمروءته، وكان الخليفة به عارفا، فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة قال: يا خزيمة! ما أبطأك عنا؟، فقال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال: فمَن أنهضك؟ قال: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا ورجل يطرق بابي، وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال: هل عرفته؟ قال: لا والله لأنه كان متنكرا، وما سمعت منه إلا “جابر عثرات الكرام”.
قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال: لو عرفناه لأعنَّاه على مروءته، ثم قال علّي بقناة، فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة، وعلى عمل عكرمة الفياض، وأجزل عطاياه، وأمره بالتوجه إلى الجزيرة.
خرج خزيمة متوجها إلي الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلم عليه، ثم سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة، وأمر أن يؤخذ عكرمة وأن يحاسَب وما يدري أنه صاحبه، فحوسب، ففضل عليه مال كثير، فطلبه خزيمة بالمال، فقال: مالي إلى شيء منه سبيل، فأمر بحبسه، ثم بعث يطالبه، فأرسل إليه: إني لست ممن يصون ماله لغرضه (أي لا يبقي منه شيئا ولا يدخر).
فأمر به فكُبل بالحديد وضُيِّق عليه، وأقام على ذلك شهراً، فأضناه ثقل الحديد، وأضرّ به، وبلغ ذلك ابنة عمه، فجزعت عليه واغتمت، ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي: عندي نصيحة، فإذا طُلبت منك قولي: ولا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلتِ عليه سليه الخلوة، فإذا فعل قولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد؟، قال: ففعلت ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! جابر عثرات الكرام غريمي؟!، قالت: نعم.
فأمر من وقته بدابته فأُسرجت، وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وسار بهم إلى باب الحبس ففُتح، ودخل فرأى عكرمة الفياض في قاع الحبس متغيراً قد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة وإلى الناس أحشمه ذلك، فنكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى انكب على رأسه فقبله، فرفع رأسه إليه وقال: ما أعقب هذا منك؟!! قال: كريم فعلك وسوء مكافأتي، قال يغفر الله لنا ولك، ثم أمر بفك قيوده، وأن توضع في رجليه، فقال عكرمة: تريد ماذا؟، قال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك، فقال: أقسم عليك بالله أن لا تفعل.
فخرجا جميعاً إلى أن وصلا إلى دار خزيمة، فأكرمه وحسن هيئته، واعتذر من زوجته.. ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين، وهو يومئذ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك، فسارا جميعا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب فأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمرنا مع قرب العهد به؟!؛ ما هذا إلا لحادث عظيم!
فلما دخل عليه قال قبل أن يسلِّم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك؟ قال: ظفرت بـ”جابر عثرات الكرام”، فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومن هو؟ قال: عكرمة الفياض.
فأذن له في الدخول، فدخل فسلم عليه بالخلافة، فرحب به، وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة كان خيرك له وبالا عليك، ثم قال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها، وقضيت على الفور، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار، مع ما أضيف إليها من التحف والظرف، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وقال له: أمرُ خزيمة إليك؛ إن شئت أبقيته، وإن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا جميعاً، ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته.
عبدالله مالك مسعودي
مقالات سابقة للكاتب