وراء كُلّ قصة هِياط، تقفُ رغبةٌ ممجوجةٌ في البحث عن الإثارة، ولفْت الانتباه، وإحداث الضجيج والجلبة.
ويمكن لهذه المفردات أن تصف مظاهر سلوك الهياط الذي يتسم بالمبالغة والخروج عن سياق النَّصّ الاجتماعي.
والهياط مسمى شعبي لسلوك اجتماعي متطرف، يحمل رسالة سلوكية تهدف إلى تأكيد القوة، أو الثراء، أو التَّفرُّد والاستثنائية الشخصية، وهي معانٍ تعكس مدى رغبة الإنسان في تأكيد قيمة ذاتية، أو البحث عن قيمٍ ومعانٍ في حياته، لكن صاحبها جانَبَ الصواب؛ لأن تلك المعاني إنما هي امتلاء بالفراغ.
ومما يزيد من انتشار نار الهياط في هشيم المجتمع، أن ثَمَّةَ هياط يحظى بالقبول الاجتماعي عند بعض شرائح المجتمع -التي تنظر إليه أنه من باب الحرية الشخصية، أو من باب “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ”، أو كونه مَظْهراً اجتماعياً وافَقَ قلباً خالياً فتَمكَّنَا.
كذلك يزيد من تَلَظّي تلك النار، البروز الطاغي والحضور القوي في المشهد الاجتماعي للثنائي المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي، والدعم الاجتماعي.
والهياط يجد قوته في هذا الحضور، حيث يتغذَّى عليه؛ مما يجعل انتشاره أمراً سهلاً، وفي متناول اليد؛ وهذا بدوره أفْضَى إلى تَشَكُّل مفهوماً وليداً عن الكرم والجود؛ أدَّى هذا كله إلى تحويل المجتمع إلى مجتمع الفُرّجَة حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي (جي ديبور) في كتابه: (مجتمع الفرجة .. الإنسان المعاصر في مجتمع الاستعراض).
والفُرّجَة حسب (ديبور) ، هي العالَم الذي تتحول فيه كل حياة إنسانية إلى مظهر في حده الأدنى عائلة في مطعم وهي تصور الأطباق.
ولعلَّ وسائل التواصل الاجتماعي جعلتْ الفُرّجَة متاحة للأفراد، وليست حكراً على المؤسسات؛ مما أوجد فرصاً للشهرة والصعود الاجتماعي الصاروخي عبر القصص التي تملأ بطون يوميات السناب شات والتيك توك.
والهياط بهذا التَّشَكُّل -إنْ جاز التعبير بهذه المفردة- مظهر مجتمعي يأتي نتيجةً لبروز الأنا الجمعية وتضخُّمها؛ لكونها تظن أن هذه الممارسات تجعلها في الصدارة عبر سباقٍ محموم ينقصه الكثير من الوعي.
وبهذا أصبح الهياط ضمن النسيج الاجتماعي وسياقه الثقافي، مما يساهم في تشكيل لغة مجتمعية تتبنى فكرة الهياط، فمن سار في دربه؛ غدتْ له صدارة المجالس، والمكانة العالية، والمنزلة الرفيعة، ومن منعه عن السير في هذا الدرب سواءً عن قناعةٍ، أو لقلة اليد؛ فسيُرمق بنظرةٍ بها الكثير من المعايب والقصور.
ورابع العوامل التي ساهمت في بَروُّز الهياط، هو ما قدمته إحدى نظريات التحليل النفسي، وهي نظرية (أدلر) الذي أكَّد أن الإنسان في بحثٍّ مستمر عن الأفضلية عن غيره، والسيطرة على غيره، فمثلاً الشعور بالنقص الاجتماعي، مثل رغبة الانتقال من طبقةٍ اجتماعية إلى أخرى أعلى، أو المحافظة على مكانةٍ اجتماعية مهددة من قبل الآخرين؛ يجعل هذا الشخص يقوم بأفعالٍ مبالغ فيها؛ في محاولة منه للفْت الانتباه، وتمجيد الذات، وتفخيم الأنا؛ من أجل تعويض النقص الذي يشعر به، وهذا بالتحديد يفسر لنا سبب الهياط ومظاهره المصاحبة له.
تأتي هذه المشاهَد الاجتماعية كلها خلاف فِعْل البسطاء وصنيعهم -الذين أنعمَ الله عليهم بنعمته ظاهرةً وباطنه- وشكروا وحمدوا خالقهم، وزهدوا في استعراض بَذْلهم، وتحويل حياتهم، وتفاصيل يومياتهم إلى فُرْجَة عبر شاشات الجوالات.
إنها البساطة حين تَتَدفقُ من أرواح هؤلاء العظماء الطيبين صادقةً كعروق أيديهم المُتْعَبة، شاسعةً مثل صدورهم التي لا تعرف إلَّا الرَّحابة، وكنداوة التُّراب حين يبتكر الزَّهر ويحتفي بالمطر.
إنهم البسطاء الذين أدركوا -منذ وقت مبكر- أن رفعة مجتمعهم، وسمو مكانتهم، تأتي من اهتمامهم بالتكافل الاجتماعي، وعدم البذخ والإسراف، وأن بذْل الخير هو أول كائنٍ ينمو حاملاً في ذاته هوية وثقافة المجتمع المسلم، وأن المجتمع يعضد بعضه بعضاً بهذا، لا بالهياط، واستمطار عبارات الثناء، واستجداء قصائد المديح، واستدرار شيلات الإطراء.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي