في زحام الحياة وتعقيداتها، نغفل أحياناً عن الكيفية التي نعيش بها حياتنا، بل يكون همنا الأكبر مقدار ما نتحصَّل عليه، وكمية الإنجازات التي نحرزها.
وكيفية العيش أو “فنّ العيْش” ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية في عالم يُمّطرنا بالمشتتات والهموم.
يأتي فنُّ العيْش ليعبر لنا عن السلام الداخلي والتوازن مع الذات والعالم، في الوقت الذي لا يعني غياب المشكلات، بل التعامل معها بحكمة بحيث لا تُفسِّد علينا جودة حياتنا.
وحتى نبلغ هذا الفنّ، فنّ العيْش بدون منغصات؛ يمكننا الوعي بأن المنغصات ليست في الخارج فقط، فليست المنغصات مجرد أحداث عابرة، أو أشخاص مزعجين، بل كثيراً ما تنبع من داخلنا: فكرةٌ متكررة، توقُّعٌ غير واقعي، خوفٌ من المجهول، أو تعلُّقٌ بماضٍ انتهى، لكنه ما زال يسرق لحظتنا الحالية؛ ولذلك علينا إدراك أن ما يُعكِّر صفو الإنسان، ويقضّ مضْجعه ليس ما يحدث له، بل تأويله لما يحدث.
وثاني متطلبات بلوغ فنّ العيْش، فَهْمُ أن التقبُّل لا يعني الاستسلام، فهو ليس كما يُساء فهمه نوعاً من الاستسلام أو اللامبالاة، بل هو الاعتراف بالواقع كما هو، بكل ما فيه من نقصٍّ وعبث، فهو وعي هادئ يمنحنا السلام، ويحررنا من عبء المقاومة المستمرة لما لا نستطيع تغييره، ويفتح باباً لفعل ما نستطيع، من دون سخطٍ أو إنكار.
وثالث متطلبات هذا البلوغ،الحضور الواعي، والانتباه للحظة الحالية، فالمنغصات تنمو في تربة الذهن المشوش، لا في الحاضر الصافي، ومن يتقن فنّ الحضور؛ يعيش اللحظة بكل كيانها، دون أن يُمَزَّقَ بين ذاكرةٍ تؤلمه، وتوقُّع يُرهقه. فالإنسان الواعي لا يهرب من الزمن،بل يصادقه.
وتتربع بساطة الحياة وطمأنينة العيْش فيها، هذه الفضيلة المنسية، كرابع متطلبات بلوغ فنّ العيْش بدون منغصات، فمن أراد العيْش بدون منغصات؛ فعليه أن يراجع كثافة حياته، ومدى ازدحامها.
إن البساطة ليست فقراً في الطموح، بل وفرة في الفهْم.
فنحن بحاجة لإعادة تعريف البساطة كقيمةٍ ذهنية، وليست تقشُّفاً مادياً.
كما نحتاج إدراك أن الطمأنينة لا تُمنح، بل تُستعَاد من تحت الرُّكام الذي صنعناه بأيدينا، وأن فنّ العيْش السلام ليس غريباً عنا، بل مُغطى بما لا نحتاجه.
هل امتلأت حياتنا بالأشياء لدرجة أن غابت عنها المعاني؟
هل صارت الإنجازات هي الغاية بديلاً عن الطمأنينة والسكينة؟
هل لا زلت أيها الإنسان لديك ذلك الحبل الممتد بينك وبين خالقك عزَّ وجل، أم أنك فقدته وزهدت فيه في خضم ركْضك وسط هذه الحياة الفانية؟
وآخر متطلبات هذا البلوغ، الوعي بأن سلامك النفسي هو اختيارك، وأن العيْش بدون منغصات ليس وعداً بحياةٍ خالية من الألم، بل وعْد بإمكانية بناء علاقة جديدة مع الألم، علاقةٌ لا تقوم على الهروب، بل على الفهْم والوعي.
إن العيْش بلا منغصات، هو أن تبني سلامك رغم ضجيج الخارج، لا بغيابه، فالسلام النفسي ليس في غياب التحديات، بل في حضور الوعي.
إن من يتأمل الحياة لا كخصم، بل كمعلّم؛ يكتشف أن معظم المنغصات إنما هي دعواتٌ للعودة إلى الذات، حيث الهدوء الأول، والسلام الحقيقي، وهي عودةٌ إلى الفطرة السوية التي تقود صاحبها إلى توثيق الصلة بخالقها سبحانه وتعالى؛ وهناك سيجد الطمأنينة وفَنّ العيْش في الحياة وأناسها بكافة أمزجتهم، والتعايش مع أحداثها بكل أحوالها.
إننا بحاجةٍ ماسّة إلى أن ننتقل من مرحلة تلبية متطلبات الحياة إلى مرحلة كيفية العيْش وفق فنّ الحياة.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي