جاء في تعريف الكتابة، أنها عملية تمثيل الرموز الصوتية برموز خطية مرسومة.
والكتابةُ بعيداً عن هذا المنظور العلمي والأكاديمي، نجد أنها تبدأ في التشكُّل على هيئة فراغات متعددة، وإعادة خلْق نفسها في صورة سطورٍ فارغة تملأ بيداء الصفحات، وتحمل بين ذراتها الصغيرة مخلوقاتٍ غير مرئية؛ لتعيش في أذهاننا أُحْجيةً أبديّة تُؤرِّخ نفسها بصورةٍ لا يمكن نسيانها،أو تجاوزها.
والكتابةُ وفْق هذا المنظور الفلسفي تبلغ مرحلة الكشْف؛ عندما لا يتطلب من قارئ النَّصّ أن يقف عند حدود فهْم ما كُتِب، بل يتجاوز ذلك باكتشاف ما فيه مما يجهله، ولم يكن يعي أنه جاهلٌ به.
وهذا يتطلب بالضرورة ذهناً صافياً، وعقلاً حصيفاً؛ فلا تمدّنَّ يد التأويل إنْ لم تكن أُصبتَ بالدهشة عند ملامسة ملامح وجه الكلمات، فالكتابة تأخذ بِضْعَاً من روح صاحبها، كَنَفَسٍ وادعةٍ حالمةٍ على صفحة ماء، يتخذُّ هيئته مما فيك، لا مما كتبه الكاتب.
في حين ينظر الكاتب إلى الكتابة، أو يُخَيّل له أنها كفتاةٍ بارّةٍ بأبيها، تنتبه له في أدق تفاصيله، وتمنحه نسمةً عذبةً في عالمٍ يعجُّ بالضجيج، في حين تبدو الكتابة لغيره وَهْماً كبيراً بأن الآخرين لن ينسوننا.
وبهذا المعنى؛ تنفي الكتابة عن نفسها أن تكون وسيلةً لتفريغ الألم النفسي، بل هي من تصنعه، وتزيد وجعه، وهي في المقابل ليست فقط وشاية، أو إشارة إلى الجراح التي تسكننا، بل قد تكون صناعة مستمرة لها دون أن نشعر بذلك.
وربما تكون الكتابة معلماً لصاحبها؛ حين تعلّمه أنْ يرتاب من الكلمات، فأكثر الكلمات شفافية؛ غالباً ما تكون أكثر خيانة.
في المقابل، نجد أننا -عبر الكتابة- نُعيّد كتابة ذواتنا مرةً بعد مرة؛ ابتغاء الرجوع إلى سيرتنا الأولى من البراءة والطُهْر والخير والجمال.
إن الكتابة تلفُّ صاحبها بدفءٍ غامضٍّ، كمن يرسم وجه عروسٍ فاتنةٍ في السماء، ويُمضي عمره في التحليق نحوها، قد يعثر عليها، كأُمنيةٍ نَبتَتْ من دعاء.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي