عندما تصبح الحرية عبئًا!

في زمنٍ أصبحت فيه الخيارات لا تُعدّ ولا تُحصى، من المهن والهواتف إلى نوع القهوة التي نحتسيها صباحاً، يبدو أننا نعيش عصراً ذهبياً للحرية الفردية.
يمكننا أن نختار كل شيء تقريباً، ونخصص حياتنا كما نشاء، ولكن هل جعلتنا هذه الحرية الواسعة أكثر سعادة فعلاً؟
في كتابه الشهير «مفارقة الاختيار» يقدّم عالم النفس الأمريكي باري شوارتز إجابة مدهشة:
“كلما كثرت الخيارات أمامنا؛قلّتْ سعادتنا وازداد قلقنا”
تخيّلْ أنك دخلت متجراً لتشتري علبة زبدة فول سوداني؛ فإذا بك أمام عشرات الأنواع المختلفة. في البداية تشعر بالفرح لأن أمامك حرية كاملة، لكن بعد دقائق من المقارنة، تبدأ في التساؤل: أيها الأفضل؟ وماذا لو اخترت النوع الخطأ؟
ما يفترض أن يكون قراراً بسيطاً يتحول إلى تجربة مرهقة، وهذا ما يسميه شوارتز “عبء الاختيار”.
فنحن نقضي وقتاً أطول في التفكير والمقارنة، ونخشى الندم بعد القرار، ثم لا نشعر بالرضا حتى لو اخترنا خياراً جيداً.
يرى شوارتز أن المشكلة لا تكمن في كثرة الخيارات بحد ذاتها، بل في عقلية المثالية التي نحملها عندما نواجهها.
نريد دائماً أن نختار الأفضل،لا المناسب.
نبحث عن الوظيفة المثالية، الشريك المثالي، الهاتف المثالي، لكننا ننسى أن الكمال وهم، وأن مطاردته المستمرة؛ تجعلنا أكثر قلقاً، وأقل رضا.
وهكذا تتحول الحرية التي كانت من المفترض أن تمنحنا السعادة، إلى مصدر ضغط نفسي دائم.
قسّمَ شوارتز الناس إلى نوعين في تعاملهم مع القرارات:
1. الباحثون عن الكمال:
الذين يقارنون بين كل خيار محتمل، ويخشون دائماً أن يفوتهم الأفضل.
هؤلاء عادةً يعيشون حالة من التوتر، وعدم الرضا حتى بعد اتخاذ القرار.
2. المكتفون:
وهم يبحثون عن خيار جيد يناسبهم، دون الحاجة لأن يكون مثالياً.
وهؤلاء يشعرون براحة أكبر وسعادة أكثر؛ لأنهم لا يطاردون المستحيل.
والحل لهذه المفارقة، كما يرى شوارتز، ليس في تقليص الخيارات من حولنا، بل في تغيير نظرتنا إليها.
والخطوة الأولى، هي أن نتبنى عقلية “الاختيار الكافي” بمعنى أن نرضى بخيار جيد يلبي احتياجاتنا دون الدخول في دوامة المثالية.
والخطوة الثانية، تكمن في تحديد أولوياتنا بوضوح قبل الاختيار، وتقليل الوقت الذي نقضيه في المقارنة، وتقبّل فكرة أن الاختيار المثالي لا وجود له.
ولعلَّ مفارقة الاختيار تكشف لنا أن الحرية المفرطة لا تقود دائماً إلى السعادة.
فكلما زادت إمكانياتنا؛ ازدادت شكوكنا، وتراجع إحساسنا بالرضا.
وربما تكون الحكمة اليوم -في ظل هذه الوفرة- ليست في أن نملك كل الخيارات، بل في أن نعرف متى نتوقف عن البحث، ونكتفي بخيار يجعلنا نعيش بسلام.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *