الذكاء الاصطناعي.. عكازنا الجديد!

نقف اليوم على أعتاب مرحلةٍ فاصلة في تاريخ الوعي الإنساني.
مرحلة تتقدّم فيها الآلات بخطى واثقة إلى قلب الحياة اليومية، فتكتب، وتفكّر، وتحلّل، وتُبدع كما لو كانت امتداداً لعقولنا، لكن خلف هذه المظاهر البراقة، يختبئ سؤال مقلق: هل لا تزال أفكارنا ملكاً لنا؟
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي مرآةً تعكس طموح الإنسان وقدرته، كما تعكس خوفه وحدوده. فبينما نحلم بأن تكون التقنية وسيلتنا إلى التفرّغ للإبداع، نخاطر بأن تتحوّل إلى قفصٍ ذهبيّ يُقيّد قدرتنا على التفكير الحر.
ولعلَّ هذا ما ذكره الباحث “رونالد غيسنو في الورقة البحثية التي قدمها بعنوان:
“أثر الذكاء الاصطناعي في الفكر الإنساني”
في يوليو 2025، فقد ذكر أن الخطر الحقيقي ليس أن نمنح الآلة بعضاً من أعمالنا، بل أن نمنحها جزءاً من وعينا دون أن نشعر.
هنا يبدأ -والكلام للباحث- ما يمكن أن نُسميه “التفريغ المعرفي” لحظة ينسحب فيها الجهد العقلي تدريجياً ليترك مكانه للراحة الرقمية، تلك الراحة التي تُخدّر الفكر وتُغريه بالكسل.
لقد اعتاد الإنسان منذ قرون أن يبتكر أدواتٍ تُعيّنه على الفعل، لا على التفكير نيابةً عنه. أما اليوم، فالأداة بدأت تتسلل إلى مناطق الوعي ذاتها.
حين نسأل الذكاء الاصطناعي أن يكتب لنا، أو يقدّم لنا فكرة، أو يشرح العالم؛ فإننا لا نستعمله فقط، بل نُفوّض إليه شيئاً من مسؤوليتنا عن الفهم. ومع كل تفويضٍ صغير، نتنازل عن لبْنةٍ في بناء عقولنا.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نُقابل هذا التحوّل بالخوف الأعمى. فالمستقبل لا يُبنى بالمقاومة وحدها، بل بالحكمة، فالذكاء الاصطناعي ليس عدواً، بل شريكاً معرفياً محتملاً.
وهنا يبرز السؤال الجوهري:
أي نوعٍ من الشراكة نريد؟
هل نريده أن يكون بديلاً عن تفكيرنا، أم مُحفّزاً له؟ أن يسلبنا دهشتنا، أم يمنحها مساحةً أكبر؟
لعلّ الطريق الأمثل هو أن نُعامله كما يُعامل الرياضيّ منافسه القوي، لا ليتنازل له عن الحلبة، بل ليتدرّب معه ويزداد صلابة.
وتقوم هذه الشراكة المعرفية عندما نبدأ من أفكارنا، ثم نستخدمه ليُضيء ما غاب عنها، وأن نبحث من خلاله عن الاحتكاك الفكري لا عن الراحة المزيّفة، وأن نترك له المهام الصغيرة، ونحتفظ لأنفسنا بما يصنع جوهر الإنسان من التساؤل، والإبداع، والقدرة على التأمل.
إنّ أعظم ما يمكن أن نخسره في عصر الذكاء الاصطناعي ليس وظائفنا، بل فضولنا المعرفي. وحين يتلاشى هذا الفضول؛ يتوقف الإنسان عن أن يكون إنساناً.
لهذا؛فإن الدفاع عن التفكير لا يعني مقاومة التقنية، بل استخدامها كي نستعيد وعينا، ونحافظ على تلك الشعلة الخفية التي جعلتنا ذات يوم نبتكر النار، ونحلم بالنجوم.
إن الذكاء الاصطناعي -في نهاية الأمر-ليس أكثر من مرآة. والمسألة ليست ما الذي يستطيع أن يفعله الذكاء الاصطناعي، بل ما الذي نريد أن نكون عليه عندما ننظر في تلك المرآة.
وهذا النهج من التصور؛ يحول الذكاء الاصطناعي من عكازٍ نعتمد عليه إلى أداةٍ تطلق إمكاناتنا الكامنة.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *