ليست التربية مهمةً نؤديها، بل علاقةٌ نصنع بها مصير إنسان. وليست الأبوّة والأمومة لقباً، بل مسؤولية تُترجَم كل يوم. وأسوأ الجرائم تلك التي تُقترف بلا نية شر،ولكن بلا وعي أيضاً.
وحين يغيب هذا الوعي؛ تتحوّل التربية إلى سلسلة من الخيانات الصامتة التي لا تظهر آثارها إلا حين يكبر الطفل؛ فيكتشف الوالدان أن ما تم كَسْره لم يكن يوماً قابلاً للترميم.
فثَمَّةَ جرائمٍ لا يسيل منها دمٌ، ولا تُدوَّن في سجلات المحاكم، ومع ذلك تَتركُ في أرواح الأبناء جراحاً تبقى ما بقي العمر.
جرائمٌ يرتكبها الوالدان باسم الحب، أو تحت ستار الانشغال، أو غياب الوعي، لكنها تظل جرائم؛ لأنها تمسّ أنقى ما في الوجود، قلب طفل ينتظر من يمسك بيده نحو الحياة.
ولعلَّ كتاب “أكبر خمسة جرائم ترتكبها في حق أبنائك” للدكتور جاسم المطوع فَصَّلَ تلك الجرائم.
الجريمة الأولى: حين تُسَلَّم الطفولة لشاشةٍ باردة.
فلا شيء أكثر قسوة من أن يُترك عقل صغير يتعلّم من ضوء لا يبادله المشاعر، وصوتٍ لا يعرف اسمه.
كثير من الآباء يختبئون خلف شماعة الانشغال، أو يطلبون لنفوسهم استراحة طويلة من أمانة أُودعت في أعناقهم.
هكذا يكبر الطفل مع مربٍّ بلا قلب، وزمن بلا قدوة؛ فيتحوّل البيت إلى نُزْل مؤقّت، والوالدان إلى زائرَين عابرَين.
الجريمة الثانية: حين يصبح الطفل ساحة معركة.
ففي البيوت التي يتناحر فيها الوالدان، لا يسمع الطفل وصايا الحب، بل صدى الخلاف. فما تبنيه الأم في صباح تهدمه كلمةٌ من الأب في مساء، وما يقيمه الأب من مبدأ تُسقطه الأم بغمزة اعتراض. عندها يتحوّل الصغير إلى جسر تُساق عليه رسائل الانتقام الصامت.
هناك، في وسط العاصفة، يفقد الطفل شعور الأمان قبل أن يحفظ اسمه، ويكبر وهو لا يعرف أيّ طريقٍ هو الطريق المستقيم.
الجريمة الثالثة: طغيان المثالية والاستبداد باسم الطاعة.
يريد بعض الآباء أبناءً ملائكيين، لا يخطئون، لا يرفعون صوتاً، يسيرون في خطوط مرسومة بدقة، كأن الحياة ورقة امتحان. وينسى هؤلاء أن الخطأ هو الهواء الذي يتنفسه النمو، وأن الاستكشاف جسرٌ إلى النضج، وأن الطفل الذي يخاف من زلّة؛ لن يصنع يوماً خطوةً حرة.
والمصيبة حين تُلبس الطاعة ثوب القداسة؛ فيتحوّل الطفل إلى تابع يعلّم وجهين،واحداً مطيعاً أمام والديه، وثانياً حقيقياً حين يغيبان.
وهكذا تُصنع النفس المكسورة، ويُوأد العقل في مهده.
الجريمة الرابعة: إسقاط ظلال الماضي على جسدٍ صغير.
كثير من الآباء يربّون أبناءهم لا وفق حاجاتهم، بل وفق جراحهم، ماضٍ عنيف، أو طفولة خائفة، أو بيت مهتز؛يتسرّب بلا وعي إلى طريقة التربية؛ فيتحمّل الطفل ما لم يُخلق ليحمله، شتات أبيه، أو خوف أمه، أو نقصهما القديم.
حينها يصبح الابن علاجاً مؤقتاً لجروح لم تُعالج، وشاهداً على معركةٍ داخلية لم يكن طرفاً فيها.
وتلك هي الكارثة، أن يُطلب من الصغير أن يُصلح ما أفسده الكبار في نفوسهم.
الجريمة الخامسة: حين تنفصل الأرض عن السماء.
تَكبر أجيالٌ تُرَبّى على أن درجات الامتحان أهم من درجات الجنة، وأن مستقبل الوظيفة أولى من مستقبل القبر، وأن بناء السيرة الذاتية أعظم من بناء القلب. يحتفل الوالدان بنجاحٍ دراسي،لكن نادراً ما يحتفلان بركعةٍ في وقتها، أو خُلق رفيع، أو موقف يدل على شهامةٍ ومروءة.
فإذا غاب البعد الإيماني؛ تحوّلت التربية إلى قشرةٍ لامعة من الخارج، لكنها فارغة من الداخل؛ يلمع فيها الطفل في الدنيا،بينما يضيع منه ميزان الآخرة.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي