غبت عن المنطقة لفترة طويلة بحكم عملي ، عدت اليوم إليها وإذ بالسماء تمطر ، وطريق عودتي بالورود يزخر ..
فأردت أن أطمئن على حدودها ، فهي كعبة حنيني وابتسامة طفولتي ، فبادرت لأحضن وردها ولكنه للأسف خان عهدها ، أدركت ذلك عندما منعت من العامل ، بقوله لي هذه أملاك خاصة ، وهم بوضع تلك السلسلة الرصينة مما قيد لساني عن الاعتذار للورد حينها ..
انتابني الشك ألم تكن تلك أرض قريبي ! يبدو أني تهت .
أوجست خيفة وأسرعت لأرض بجوارها بنبضات قلب متثاقل ، مردداً إلا هذه الأرض فما زالت شقاوة طفولتي عالقة بين أغصانها ، وابتساماتي هي بذور ( حيجانها ) ، ولكني اصطدمت بشبك عالي يردفه سور بيزنطي يصعب اجتياحه..
أما شجرة الطفولة فلقد علت أغصانها ذلك السور ، وكأني بها خاضعة ذليلة لذلك المستوطن ، أعلنا الفراق وودعت طفولتي بلا عناق ، قدمت فرحاً مستبشراً ، ومضيت رجلاً بلا ماض أروي شغف الحنين من أنين ذلك الغصن .
للأسف استوطنت كل الأراضي ومن باع بالكسب فرح راضي ، والمحافظين على الإرث يلومون الريح التي اجتاحتهم ، يقال ( لا لوم على الريح إن كان الأحباب ورق ) .
ماذا لو أراد المستوطنون تحويلها شرعاً إلى مزرعة دواجن ، إلى محميات ، أو وكراً لممارساتهم بعيداً عن أعين الرقيب ، فليس بإمكاننا ردعهم تبعاً لأهواءنا ، لأنه ملكهم المضمون ونحن على نصرة الحق مجبولون .
هنا فقط ستصبح أمالنا في الخلاص منهم مجرد جمهور .
يا للأسى ! أصبحنا نعيش في قفص استوطن سياجه أطرافنا واغتالت قذارته أعماقنا .
يقول جبران خليل (( العصفور لا يبني عشا في القفص ، حتى لا يورث ابنه العبودية )).
نقر بأننا أخطأنا في التفريط ببعض من ماضينا ( الجديات ) ، لم يكن تفكيرنا حراً بما فيه الكفاية للتنبؤ بمستقبلنا ، مع هذا سنتحمل خطأنا ولن نعارض من استملكوا فهذا حقهم .
يقول سورين (( الناس يطالبون بحرية التعبير كتعويض عن حرية الفكر التي نادرا ما تستخدم )).
الان أجزم بأننا تعلمنا من أخطاءنا ، فلقد التقت حرية الفكر والتعبير سوياً ، صحيح أننا سمحنا لذلك المستوطن أن يتغلغل في أعماقنا ، لكن كما ذكرت سابقاً نحن قوم جبلنا على قول الحق ، لذلك لم ولن نسمح (( جميعاً )) له أن يحيطنا بمستنقعاته التي رحبت جرذانه كثيراً ببيان (( البعض )) الصادر عن نقيق ضفادعها.
يعلم (( البعض )) أعني جميعاً بأن زهر ذلك المستنقع نتن بائس لا عوض فيه ولا عائض له ..
يقال في اللغة ” العائض ” : الخلف والبدل ، لكني سأصدر بيانا أنكر فيه (( بعض )) ما جاء في المعجم .
وأن ذلك الزهر استفحل على ذلك الورق الهش ، وبدت (( بعض )) الأوراق خانعة له .
وهيهات هيهات : لشجرة المستنقع المعمرة ، في الثانية الواحدة تظهر جوانبها شتى أنواع الفصول ، ولكن لجذورها فصل خامس ” عمر ” عشرات السنين ، جذور تترنح طرباً لقول ابن عبده : ( فصل خامس ضايع بين الفصول الأربعة ) .
ويقال في اللغة ” عمر ” : من الفعل عمر يعمر تعميراً ، فهو معمر والمفعول معمر ، ولكني هنا سأوافق علماء اللغة ، لأن الشجرة بالفعل عمرت عقولنا بظل زائل ، واستمالت مشاعرنا بفحيح صوتها الحسيني المائل .
يا ساكن القفص يا عمدة القفص الأجمل ، تغريداتك تزيدنا إصرار ، ولكن بحكم مكانتك أوصل هذه الحروف وغيرها للمسئول باختصار ، لو دارت الرحا ، لن يسلم أحد من أهل الدار .
يقول ابن القيم : ( إن العبد ليصعب عليه معرفة نيته في عمله ، فكيف له أن يتسلط على نيات الخلق ) .
أما أنا أتمنى أن تسيئوا فهمي ، وأن تتسلطوا على نيتي .
بما أننا عرضنا الأرض للبيع ، فلنعتذر من تلك الوردة ولنزعزع تلك القضبان، ونطبع ذلك الوسم في ناصية كل حاقد ، ولنردد سويا :
يا وردة أعذرينا ، وبالموت ارجمينا !!
يا وردة ، أولا تعرفينا ؟!
يا أرض أخبريها ، وبقايا الأجداد انبشيها،
لا تتلعثمي ، ولقول الحق رددي :
يا مستنقع الأحقاد ، جهزوا الأصفاد ،
فسلمان الحزم ساد ، وبنصره عزمنا زاد
يا وردة أتحفينا !!
وفي التاسعة سامرينا ..
مشهور عبدالعزيز الصحفي
مقالات سابقة للكاتب