بالنظر إلى تاريخنا الإسلامي القديم نجد الكثير من النماذج التي صبرت وسافرت وتنقلت في أوقات كان فيها الترحال والإنتقال من بلد إلى آخر يعتبر ضرباً من ضروبالخيال ومخاطرة ما بعدها مخاطرة ، وأما في مملكتنا الحبيبة يكفي ما كنا نسمعه من أجدادنا عن المشقة التي كان يتكبدها الإنسان لكسب العيش وكم من الناس سافر من مكان إلى آخر في طلب شخصٍ يقرأ له رسالةً جاءته من عزيز ، ثم فتح الله علينا أبواب الخير وأنعم علينا بالرخاء وبقادة حكماء يسعون لما فيه المصلحة العامة على الرغم ممايواجهونه من تحديات داخلية وخارجية ، فنسأل الله لهم ولنا التوفيق والسداد.
ومن المشاريع التي واجهت الكثير من التحديات برنامج خادم الحرمين الشريفين للإبتعاث الخارجي ، وهو البرنامج الذي يعتبر واحداً من أقوى البرامج التعليمية على مستوى العالم والذي على الرغم من أهميته والجُرأة المتخذة في تنفيذه والمصاعب الكبيرة التي تواجه القائمين عليه إلا أنه لا زال يسير بخطى ثابته وكذلك يواجه الإنتقادات سلباً وإيجاباً ، فهل يعني ذلك أن نتوقف عند هذا الحد من الإنجازات التي وصلنا إليها.
من وجهة نظري أرى أن البرنامج فريد من نوعه وبمخرجات رائعة ، ففي الإبتعاث إكتساب معرفة وعلم وإحتكاك بشعوب ليست من بلد الإبتعاث فحسب بل من دول مختلفة، وفيه يمر الطالب أوالطالبة بظروف قد تكون أحياناً في غاية الصعوبة وخاصة لمن همقليلي الخبرة ، فتكون تلك الفترة هي المحك الحقيقي لإختبار إيمانهم ، وفحص قدراتهم ومدى إصرارهم على بلوغ أهدافهم ، وهي مرحلة يمر بها جميع المبتعثين تقريباً بما فيهامن سهر وتحضير وتعلم لغة جديدة ، وطرق تعلم مختلفة وجديدة ، كل ذلك يتم في مجتمعبثقافات مختلفة ، يصحبها الإعتماد على الذات في توفير السكن ، والسيارة ، ومراجعة الأطباء ، وتعلم الكثير من الأنظمة في بلد الإبتعاث بدأً من أنظمة السير ، ومروراً بتسديد الفواتير وإبرام عقود إيجار المسكن ، والسيارة ، والأجهزة ، والأثاث ، أمور كثيرة تجعله وكأنه في مرحلة صهر ليتم تشكيلة بطريقة جديدة في بيئة تختلف عن بيئتهمع إحتفاظه بجوهره ، وهذه المرحلة هي التي تؤدي إلى سرعة النضج والإعتماد على الذات بعد الله ، حيث أن الضغوط هي التي تُسرع النضج وتُخرج المواهب والصفات الحسنة المكنونة ، مثله تماماً مثل نضج الطبخ في قدور الضغط حيث تختصر الزمن وإستهلاك الغاز أو الكهرباء ، وهذا لا يعني بأن الطبخة سيمكن إتقانها من المرة الأولى ، وذلك أيضاً ما على المتبعث أن يتوقعه إذ مطلوب منه في بعض الأحيان المحاولة والتكراروالصبر لكسب المعرفة والحصول على أفضل النتائج.
إلا أن رحلة الإبتعاث ليست بالقصيرة ولن تكون تماماً كلها مثل قدر الضغط وإنما سيمر بفترات من الراحة والطمأنينة والسعادة وذلك خلال الإنجازات التي سيُتوج بها ويكافيء نفسه عليها ، ومع هذا فكل مبتعث عليه أن يتوقع كل ما لا يمكن توقعه من مسؤوليات وأن يجهز نفسه لمرحلة تحتاج منه أن ينسى مؤقتاً ما كان متعوداً عليه من توفر الخدماتبسهولة بين يديه ، ويستعد لأن يتقمص شتى أنواع الشخصيات ويمارس مختلف المهن إذ أنه سيكون هو المخطط لحياته ، وماسك الدفاتر، والمحاسب القانوني ، ومندوب المشتروات ، والسائق ، والخادم ، والطباخ ، والمنظف لمسكنه بأكمله وهو الذي يتكفل بنقل النفايات إلى مقرها وهو الذي ينظف مكانه في المطعم أحياناً ، وقد يصل الحد إلى تنظيم دورات المياة وكذلك تنظيف مجلسة وقت المغادرة في الحدائق العامة عند التنزه ، وكل هذه الأمور ستكون في المرحلة الأولى غريبة عليه نوعاً ما ، وإنما مع مرور الوقت ستكون طبيعيةجداً.
أهم ما في ذلك كله هو التحصيل العلمي الجاد ، والتركيز على كل ما هو جديد في عالم العلم والمعرفة من تقنيات تعليم ودراسات وأبحاث وكتب ذات أفكار حديثة في مجاله ، إذ أن عليه مسؤولية كبيرة في نقل كل ما هو مفيد ونافع إلى بلده ونشره بين أفراد مجتمعه.
هذه عجالة سريعة عما يمر بالمبتعث ، والتي تناولتها بإسهاب أكثر في رسائل مبتعث ، داعياً الله أن ينفعني وينفع الجميع بها ويوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.
مقالات سابقة للكاتب