يمثّل الاهتمام بالحرمين الشريفين وقاصديهما, أولوية قصوى لدى ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية وذلك منذ عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله- ومرورًا بأبنائه الملوك البررة – رحمهم الله – وصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – ويجسّد هذا الاهتمام واقع الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة الذي يلمسه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في مواسم العمرة والحج كل عام.
وزادت المشروعات التي أقامتها المملكة لتوسعة الحرمين الشريفين وتطوير المشاعر المقدسة مع إطلاق رؤية المملكة 2030 التي أكدت فخر المملكة بخدمة الحرمين الشريفين بوصفها قبلة المسلمين، والعمق العربي والإسلامي بغية إتاحة الفرصة لأكبر عدد من المسلمين ليؤدوا مناسكهم في راحة ويسر, تضاعفت على إثرها الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام والمسجد النبوي, بما يتناسب وزيادة أعداد الحجاج والمعتمرين والزوار في كل عام.
وتجسّد متابعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود, وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود, ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع – حفظهما الله – للمشروعات الكبرى لتوسعة المسجد النبوي الشريف, وتطوير وتحسين المناطق المجاورة, وزياراتهما المتوالية لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدى حرص القيادة الرشيدة على تحقيق كل ما يمكّن ضيوف الرحمن من أداء نسكهم وعباداتهم بكل يسر وسهولة وراحة واطمئنان, وتوفير الرعاية الشاملة لهم وتسخير الإمكانات لتوفير أفضل الخدمات لقاصدي المسجد النبوي, ولأهالي مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وزائريها.
وتعدّ المشروعات الحيوية الكبرى التي أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – أيده الله – بتشييدها في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة, ومشروعات النقل العام, ومن أبرزها مشروع “قطار الحرمين السريع”, وتوسعة وتشغيل مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز الدولي بالمدينة المنورة, شاهداً على عنايته – رعاه الله – بكل ما يمكّن الحجاج والمعتمرين والزائرين من أداء مناسكهم بيسر وسهولة.
وشهد المسجد النبوي الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين في السنة الأولى من الهجرة بعد قدومه إلى المدينة المنورة مهاجرًا من مكة المكرمة، نحو 10 توسعات متعاقبة على مرّ العصور, أكبرها جرت في عهد الدولة السعودية.
وبدأ بناء المسجد النبوي في عهد النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فقد شيّد في أرض لغلامين يتيمين اسمهما “سهل وسهيل” كانت مكاناً لتجفيف التمر، إذ اختطّ الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام أرض المسجد فجعل طوله 50 متراً وعرضه 49 متراً, وجعل القبلة إلى بيت المقدس، وحفر أساسه وسقفه بالجريد, وجعل عمده جذوع النخل, وجعل له ثلاثة أبواب, باب في مؤخرة المسجد, وكان يقال له باب عاتكة أو باب الرحمة, وباب جبريل وهو الذي يدخل منه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جُعل في مؤخرة المسجد مكاناً مظللاً يعرف “بالصٌفّة” وهو المكان الذي كان يأوي إليه الغرباء والمساكين.
ولم يسقّف الرسول صلى الله عليه وسلم كل المسجد، وكان إذا نزل المطر يسيل مختلطاً بطين السقف على المصلين, ولما طلبوا من النبي أن يزيد الطين على سقفه, رفض وقال : ( لا ، عريشٌ كعريش موسى)، ولم يكن المسجد مفروشاً في بداية أمره, ولكنه فرش بالحصى, وبعد تحويل القبلة أغلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب الكائن في الجدار الجنوبي, جدار القبلة الحالية, وفتح بدلاً منه باباً في الجدار الشمالي, جدار القبلة سابقاً, وترك جزءاً من المسجد في الجهة الشمالية لأهل الصفة.
وتوالت توسعات المسجد النبوي في حقب زمنية مختلفة خاصة خلال عهد الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك – رحمهم الله – حتى هذا العهد الذي وجد فيه المسجد النبوي كل الاهتمام والرعاية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين – أيدهما الله – حيث أُطلقت جملة من المشروعات الكبرى لخدمة المسجد النبوي وقاصديه, وتوسيع مساحته وتزويده بمختلف الخدمات اللازمة لخدمة المصلين والزائرين.
وجرى في عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – عدة إصلاحات للمسجد النبوي الشريف, ففي سنة 1365هـ لوحظ تصدعاً في بعض العقود الشمالية, وتفتّت في بعض حجارة الأعمدة في تلك الجهة بشكل مُلفت للنظر, فصدر أمر الملك عبدالعزيز بعد دراسة المشروع بإجراء العمارة والتوسعة للمسجد, وصرف ما يحتاجه المشروع من نفقات دون قيدٍ أو شرط, مع توسيع الطرق حوله، إذ أعلن الملك عبدالعزيز في خطاب رسمي سنة 1368هـ عزمه على توسعة المسجد النبوي الشريف, والبدء بالمشروع, وفي سنة 1370هـ بدأت أعمال الهدم للمباني المجاورة للمسجد النبوي الشريف.
وفي سنة 1375هـ انتهت العمارة التوسعة في عهد جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز – رحمه الله – وكانت العمارة قوية وجميلة بالأسمنت المسلح, ونتج عن هذه التوسعة أن أُضيف إلى مسطح المسجد 6033 متراً مربعاً, واحتفظ بالقسم القبلي من العمارة المجيدية كما هو, وهو ما كان صالحاً للبقاء وبذلك أصبح مجمل العمارة السعودية 12,271 متراً مربعاً، وأقيمت التوسعة كمبنى هيكلي من الخرسانة المسلحة وهي عبارة عن أعمدة تحمل عقوداً مدببة, كما قُسم السقف إلى مسطحات مربعة شُكلت على نمط الأسقف الخشبية, وزخرفت بأشكال نباتية, وعُملت الأعمدة المستديرة تيجان من البرنز وزخرف أيضاً، أما المآذن فقد بلغ ارتفاعها 72 متراً تتكون كل واحدة من أربع طوابق تناسقت في شكلها مع المنائر القديمة للمسجد، كما حُليّت جدران المسجد بنوافذ جميلة وجُعل للمسجد صحنان مفصولان برواق بدلاً من واحد, وتمت تغطية أرضية المسجد بالرخام وأصبح للمسجد النبوي الشريف عشرة أبواب.
أما في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – فقد روعي تزايد الأعداد الوافدة للمسجد النبوي خاصة في موسم الحج نتيجة لسـهولة المواصلات والتنقل والراحة التي يلقاها الحاج والزائر في هذه البلاد الطاهرة، فوفرت الحكومة في عهده – رحمه الله – كل ما يحتاجه من أمن واسـتقرار وتوفر المتطلبات الأساسية له بما جعل أمر توسعة المسجد النبوي الشريف أمراً ضرورياً حتى يستوعب هذه الأعداد المتزايدة، وأصدر الملك فيصل – رحمه الله – أمرًا بتوسعة المسجد النبوي الشريف, وكانت هذه التوسعة من الجهة الغربية للمسجد النبوي الشريف فقط، حيث تمثلت التوسعة في إضافة 35 ألف متر مربع إلى أرض المسجد النبوي الشريف ولم تتناول عمارة المسجد نفسها بل جُهزت تلك المساحة لإقامة مصلىً كبيراً ومظللاً يتسع لعدد من المصلين يُماثل عددهم داخل المسجد، ثم أضيفت مساحة 5550 متراً مربعاً وظُللت كذلك, مما أتاح المجال لاسـتيعاب أعداداً أكثر من المصلين وكان ذلك سنة 1395هـ.
وفي عهد الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – حصل حريق في سوق القماشة سنة 1397هـ وهو في الجهة الجنوبية الغربية للمسجد النبوي الشريف, وتمت إزالة المنطقة وتسوية أرضيتها, وتعويض أصحاب الدور والعقار, وتمّت إضافتها لمساحة المسجد, حيث بلغت المساحة 43 ألف متر مربع, وهو ميدان فسيح مظلل, أُضيف إلى أرض المسجد النبوي ولم تتناول عمارة المسجد, وقد تم تخصيص جزء منها مواقف للسـيارات.
واستمر الاهتمام بالمسجد النبوي في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – حيث أمر بإجراء دراسات لتوسعة كبرى للمسجد النبوي الشريف, وكان دافعه لذلك كله أن يكون للحرمين الشريفين قيمة متوازية كما لهما القيمة الروحية العظمى لدى المسلمين، حيث تم في سنة 1405هـ وضع حجر الأساس لمشروع التوسعة للمسجد النبوي وتضمن مشروع التوسعة وعمارته إضافة مبنى جديد بجانب مبنى المسجد الحالي يُحيط ويتصل به من الشمال والشرق والغرب بمساحة قدرها 82 ألف متر مربع, يستوعب 167 ألف مصل, وبذلك تصبح المساحة الإجمالية للمسجد النبوي الشريف 98,500 متر مربع, كما تم تغطية سطح التوسعة بالرخام والمقدرة مساحته بـ 67 ألف متر مربع ليستوعب 90 ألف مصل وبذلك يكون استيعاب المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة لأكثر من 257 ألف مصل ضمن مساحة إجمالية تبلغ 165,500 متر مربع.
وتضمنت أعمال التوسعة إنشاء دور سفلي “بدروم” بمساحة الدور الأرضي للتوسعة, وذلك لاستيعاب تجهيزات التكييف والتبريد والخدمات الأخرى, واشتمل المشروع كذلك على إحاطة المسجد النبوي الشريف بساحات تبلغ مساحاتها 23 ألف متراً مربعاً, تُغطى أرضيتها بالرخام والجرانيت, وفق أشكال هندسية بطُرز إسلامية متعددة جميلة, خُصص منها 135 ألف متراً مربعاً للصلاة, ويستوعب 250 ألف مصل, ويمكن أن يزيد عدد المصلين إلى 400 ألف مصلٍ في حالة استخدام كامل مساحة الساحات المحيطة بالمسجد النبوي الشريف, مما يجعل الطاقة الاستيعابية لكامل المسجد والساحات المحيطة به تزيد عن 650 ألف مصلٍ, لتصل إلى مليون مصلٍ في أوقات الذروة, حيث تضم هذه الساحات مداخل للمواضئ, وأماكن لاستراحة الزوار تتصل بمواقف السيارات التي تتواجد في دورين تحت الأرض, وخصصت هذه الساحات للمشاة فقط, وتضاء بوحدات إضاءة خاصة مثبتة على 120 عامود رخام.
وتضمّن المشروع إقامة اثني عشرة مظلة ضخمة في منطقة الحصوات المكشوفة التي تقع بين المسجد القديم والتوسعة السعودية الأولى, فشيّدت المظلات بنفس ارتفاع السقف لتظلل كل منها مساحة 306 أمتار مربعة, يتم فتحها وغلقها أوتوماتيكياً, وذلك لحماية المصلين من وهج الشمس, ومياه الأمطار, والاستفادة من الجو الطبيعي, حينما تسمح الظروف المناخية بذلك.
وفي عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – تم تدشين أكبر توسعة للمسجد النبوي الشريف على مدى التاريخ, إلى جانب مشروع مظلات المسجد النبوي التي أمر بها وهي من المشاريع العملاقة, لتصل طاقة المسجد النبوي الاستيعابية بموجبها إلى مليوني مصلٍ مع نهاية أعمال المشروع – بمشيئة الله تعالى – حيث جاء التوجيه بتصنيع المظلات وتركيبها على أعمدة ساحات المسجد النبوي الشريف التي يصل عددها إلى 250 مظلة تُغطي هذه المظلات مساحة 143 ألف متر مربع من الساحات المحيطة بالمسجد من جهاته الأربع, يُصلي تحت الواحدة منها ما يزيد على 800 مصلٍ, يُضاف إلى ذلك تظليل ستة مسارات في الجهة الجنوبية, يسير تحتها الزوار والمصلون, وصُنعت هذه المظلات خصيصاً لساحات المسجد النبوي على أحدث تقنية وبأعلى ما يمكن من الجودة والإتقان، وخضعت لتجارب في بلد التصنيع وأُستفيد من التجربة في المظلات التي قبلها التي تعمل بحمد الله بكفاءة جيدة منذ أن انتهت التوسعة ومع ذلك, فقد طُورت المظلات الجديدة, وأُدخل عليها تحسينات في شكلها ومادتها ومساحتها, وصمّمت بارتفاعين مختلفين بحيث تعلو الواحدة الأخرى على شكل مجموعات لتكون متداخلة فيما بينها, ويبلغ ارتفاع الواحدة منها 14 متراً و40 سنتيمتراً, والأخرى بارتفاع 15 مترا و30 سنتيمتراً, ويتساوى ارتفاع جميع المظلات في حالة الإغلاق بارتفاع 21 متراً و 70 سنتيمتراً.
وشيّدت ضمن مشروع المظلات 436 مروحة رذاذ لتلطيف الأجواء, جرى تركيبها على 250 مظلة, في واحدة من أبهى صور العناية والخدمة التي تجسّد العناية والرعاية لمرتادي المسجد النبوي الشريف, كما يعدّ المشروع من أضخم مشروعات الترطيب في العالم, إذ تغطي مراوح الرذاذ مختلف أرجاء ساحات المسجد النبوي التي تبلغ مساحتها نحو 175,500متر مربع, وتتسع لما يقرب 251 ألف مصلٍ, وتحتوي كل مروحة على 16 فتحة للرذاذ, صممت بطريقة تمنع تساقط الماء عند إيقاف التشغيل.
ويحتضن المسجد النبوي “الروضة الشريفة” التي تقع غربي الحجرة النبوية مباشرة, وتمتد إلى المنبر وتبلغ مساحة الروضة نحو 330 متراً مربعاً, وتبلغ أبعادها 22 متراً من الشرق إلى الغرب و 15 مترًا من الشمال إلى الجنوب وتضم الروضة المحراب النبوي الذي يقع في الجزء الغربي منها يفصله عن المنبر مسافة 7 أمتار تقريباً, ويحدّ الروضة من الجنوب سياج من النحاس يفصلها عن زيادتي عمر وعثمان – رضي الله عنهما – أما من الجهتين الشمالية والغربية فهي متصلة ببقية أجزاء المسجد, ويميّز الروضة عن باقي مساحة المسجد أعمدتها المكسوة بالرخام الأبيض الموشى بماء الذهب إلى ارتفاع مترين تقريباً, وتقع إلى الناحية الشرقية من الروضة الشريفة حجرة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – ومن الغرب المنبر الشريف, ومن الجنوب جدار المسجد الذي به محراب النبي صلى الله عليه وسلم, ومن الشمال الخط المار شرقا من نهاية بيت عائشة – رضي الله عنها – إلى المنبر غرباً.
وتضم الروضة على أطرافها معالم عدة منها الحجرة الشريفة التي تضمّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ومحرابه صلى الله عليه وسلم الذي وضع في وسط جدارها القبلي, ومنبره عليه الصلاة والسلام, وتتخللها عدد من الأعمدة المميزة عن سائر أساطين المسجد, بما كسيت به من الرخام وفي الجهة القبلية من الروضة حاجزٌ نحاسي جميل, يفصل بين مقدمة المسجد والروضة بارتفاع متر, أقيم عليه مدخلان يكتنفان المحراب النبوي, وتنتشر في الروضة الأساطين الحجرية التي وضعت عليها خطوط مذهبة تميزها عن غيرها من أساطين المسجد.