تمر الأيام وما أسرعها! وتمضي الشهور وما أعجلها! يقلب الله الليل والنهار في سرعة لا نشعر بها، وفي الحديث ” لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان ، فتكون السنة كالشهر ، ويكون الشهر كالجمعة ، وتكون الجمعة كاليوم ، ويكون اليوم كالساعة ، وتكون الساعة كاحتراق السعفة ” حديث صحيح رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
أخي القارئ أختي القارئة: عودوا إلى الوراء قليلا، واستذكروا خالي أيامكم يسيرا، لا لعشر سنوات مضت، ولا لعشرين عاما خلت، ولكن عودوا لرمضان الماضي، وتذكروا منذ انصرم ذلكم الشهر المبارك وانطوى، لم يحل الحول على تلكم اللحظات العظيمة والساعات الكريمة، بل لكأنما هي لم تزل تمر بنا الآن. ولننظر كم استجدت بعدها من أمور، ووقع من مقدور! كم عز من ذليل وذل من عزيز! وكم صح من سقيم واعتل من صحيح! بل وكم ممن كان في ذلك الموسم العظيم ملء سمع الدنيا وبصرها، حضره العيد وهو بين زوجه وأبنائه ومحبيه، وها هو اليوم تحت التراب مدفون وحده، لا يدري ما مر الشهور ولا كر الأيام، ولا ما رمضان ولا ما الصيام، ولا يقدر على بذل ولا دعاء ولا قيام. فتصور أيها القارئ أيتها القارئة لو أنك كنت ذلك المقبور المهجور، ولتكن على يقين أنك إن لم تكنه اليوم وفي هذا العام، فستكون إياه غدا أو بعد أعوام.
أيام ايها الأحبة ويطل علينا موسم كريم، وشهر عظيم، ويفد علينا وافد حبيب, وضيف عزيز، ويهل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه العبقة، وأيامه المباركة الوضاءة، ولياليه الغر المتلألئة، ونظامه الفريد المتميز، وأحكامه وحكمه السامية. هو من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة؛ لما له من الخصائص والمزايا، ولما أعطيت فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الهبات وخصت فيه من الكرامات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين “. فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير.
بماذا عسانا أن نستقبل شهرنا الكريم، وموسمنا الأغر العظيم؟! إن استقبالنا لرمضان يجب أن يكون بالحمد والشكر لله جل وعلا، والفرح والاغتباط بهذا الموسم العظيم: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58].
ثم التوبة والإنابة من جميع الذنوب والمعاصي، وأي عبد لم يلم بشيء منها؟!
كما يجب الخروج من المظالم، وأداء الحقوق إلى أصحابها، وفتح باب المحاسبة الجادة للنفوس، والمراجعة الدقيقة للمواقف، والعمل على الاستفادة من أيامه ولياليه صلاحا وإصلاحا. بهذا الشعور والإحساس يتحقق الأمل المنشود، وتسعد الأفراد والمجتمعات بإذن الله.
أخلصوا النية وأصلحوا الطوية، فقد قال نبيكم فيما رواه الإمام مسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”. فهيا بنا أحبتي جميعا بلا استثناء، لنصلح القلوب، ولنطهر الأفئدة، ولنزل ما في الصدور ولنزك النفوس، ف (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) [الشمس:9-10].
لنجتث أي نابتة من شرك أو رياء أو شك، ولنطرد أي دخيل من شحناء أو حسد أو بغضاء، فقبيح بنا وقد أقبل شهر الخير ودنا موسم البر، وجاء شهر القرآن والغفران والإحسان، أن نرفع أعمالا صالحة في أوعية فاسدة، فوالله! لو أراد أحدنا أن يقدم طعاما لأقل ضيوفه قدرا، لاستحيا أن يقدمه في قدح دنس، فكيف ولله المثل الأعلى نقدم لربنا وخالقنا أعمالا ظاهرها الصلاح والنقاء والصفاء، في قلوب داخلتها الأدواء والأهواء، وأفئدة أفسدتها الشحناء والبغضاء؟!.
أما يستحيي أحدنا أن يدخل عليه رمضان وهو عاق أو قاطع أو مشاحن، أو مصر على تناول الحرام غارق في المشتبه؟! يسمع قول مولاه تبارك وتعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) [النور:22].
وقول الناصح الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وغيره: “تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا”.”. ثم مع ذلك يصر على القطيعة مستكبرا، ويمضي مدبرا.
وقد يتساءل في نفسه مستنكرا: لماذا لا أعان على صالح العمل، ولا أجد له حلاوة كما يجدها الأبرار؟! لماذا لا اخشع في صلاتي ؟ لماذا يسمع المصلون القرآن يتلى فيؤثر في قلوبهم وتدمع عيونهم وقلبي كالصخر, وعيني جافة كالصحراء القاحلة ؟ ولماذا يثقل علي البذل والعطاء، ولا يجاب لي سؤل ولا دعاء؟! وينسى أنه لو أقبل على ربه بصدق, وحرص على تناول الحلال, ونظف قلبه من الضغينة والشحناء, لذكره الله، ولكنه أصر على أن يكون من قوم نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا فأنساهم أنفسهم.
لنتقدم رمضان بكثرة الاستغفار ودعاء الله ببلوغه والتوفيق فيه، ولنشرع في جمع الحسنات وتنويع الصالحات مبكرين، وإذا فتحت أبواب الخير فلندخل مسارعين، ولنبذل، ولنعد لإطعام الطعام، وتفطير الصوام، ولنتصالح مع جيراننا وارحامنا وإخواننا ولنحذر الإعراض والصدود والموانع والقواطع.
أخي القارئ أخت القارئة: الاستباق إلى الخيرات، والمنافسة على الباقيات الصالحات أصل من الأصول الثابتة في القرآن الكريم، أمرنا الله تعالى به في عدد من الآيات: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات) [المائدة:48].
وأمرنا سبحانه وتعالى أن نسارع إلى مغفرته وجنته، ولا يكون ذلك إلا بالمسارعة في الأعمال الصالحة؛ لأنها ثمن المغفرة والجنة: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) [آل عمران:133]،
وفي الآية الأخرى أمرنا عز وجل بالمسابقة عليها؛ لأن أهل الإيمان يتسابقون إلى مغفرة الله تعالى وجنته سبحانه: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) [الحديد:21].
وأخبرنا سبحانه أن المسابقين إلى الإيمان والعمل الصالح يسبقون إليه سبحانه، ويظفرون بالقرب منه في الدار الآخرة، وكفى بذلك شرفا وفضلا للمتسابقين في الخيرات: (والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم) [الواقعة:10-12].
اجعل نيتك من الآن المسابقة والمسارعة إلى الجنة في رمضان القادم يكتب أجر ذلك وإن لم تبلغه. اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم وأعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. واغفر وارحم من رحل قبلنا من احبابنا قبل أن يأتي رمضان, وأن تجعل لهم من الأجر والمثوبة بقدر أجر الصائمين والقائمين والمتصدقين, إنك يارب أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم .
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
مقالات سابقة للكاتب