كنت في أحد المحلات التجارية أتحدث مع البائع، وأثناء الحديث وقف بجانبي أحد الزبائن وكان محافظاً على المسافة الوقائية، فتَوَضَّحته وإذ به أحد المعارف يتشاغل بالمحفظة عن السلام كما يبدو، تفهمت الوضع وقدرت رغبته ومضيت في شأني. بينما آخر بشّ محياه عند اللقاء، وحيَّا بتحية أهل الجنة وهو يمد يده مصافحاً لا معانقاً. في حين من قابلته في مكان آخر القى التحية من بعيد مُتْبِعاً إياها السؤال عن الأحوال وسط تأرجح الأقدام بين إحجام وإقدام أوقفها اِنصراف النظر.
المواقف آنفة الذكر حدثت جميعها داخل محيطنا الجغرافي، وأعلم أن الجمع سيفترق في التأييد أو الإتيان بالجديد في التعامل مع هكذا مواقف. بيد أن مما لا يطاله الشك أو يرقى إليه الريب، أن السواد الأعظم سيعمد لتبني مافيه الظفر بالسلامة، لذا هناك بلورة لطريقة موحدة بدأت تتشكل، حتى وإن أفضى الأمر إلى التخلي عن عادة لها قدسيتها الإجتماعية.
ثمة حقيقة صلبة وبارزة للعيان، وهي أن كورونا أخذ بأهداب التغير السلوكي للفرد وللجماعة، وعمد لقولبت العادات وإعادة صياغتها من جديد ضمن أسس صحية وتدابير وقائية يُتقى بها – بعد الله- انتقال أي عدوى، فالحذر سيد الموقف عند اللقاء بعد الآن، والتحفظ على المصافحة والمعانقة سيمكث أزمان، والمتحلقون على الصحفة سيختفي بينهم تقريب الطعام بالبنان، وغيرها من العادات والسلوكيات التي سيطالها التغيير ذو المردود الإيجابي على الصحة العامة.
لا خلاف حول دور كورونا في إثراء الحصيلة المعرفية الصحية لدى أفراد المجتمع، وزيادة إهتمامهم بالنظافة وسبل الوقاية، وإرشادهم إلى طرق تقوية جهاز المناعة، مما ترتب عليه تعديل في نمط الحياة، وتطويع لعادات عتيقة، حتى تكون أكثر مواءمة مع متطلبات الوقاية الصحية. كل ذلك تحقق في زمن قياسي مقارنة بالسنوات الطوال التي قضتها وزارة الصحة في التوعية والإرشاد من أجل الوصول لنفس النتيجة، وهذه من شعرات كورونا البيضاء في جلد الثور الأسود.
أيضاً ساهمت جائحة كورونا في زيادة الوعي بالمسؤولية الفردية والدور المنوط بها في حماية المجتمع، والذي ينطلق في الأساس من حماية الذات، حيث برز بينهما الترابط الوثيق والتأثير العميق، وهذا بحد ذاته مدعاة إلى مراجعة الموقف السلبي من سلوك الفرد الذي يفت في عضد المجتمع، سواءً على صعيد هذه الجائحة أو سواها.
كورونا اليوم يسوس الناس بعصا العدوى نحو سلوكيات أكثر أماناً، حتى بتنا نشاهد في الأماكن العامة تزايد في أعداد الملتزمين بالإجراءات الإحترازية، وهذا من شأنه التأثير على السلوك الجمعي بطريقة لطالما كنا ننشدها من قبل.
صفوة القول، أن هناك بقعة ضوء في عتمة الوباء، وما سُطِّرَ أعلاه من تبعات إيجابية على سلوكنا ووعينا يعد جزء من بقعة الضوء المشتملة على جوانب عديدة تبعث على الطمأنينة والتفاؤل، وهذا ما يُفترض بنا تناوله باِستفاضة مع من حولنا اِمتثالاً لقول رسولنا البشير ﷺ: ” بشروا ولا تنفروا”.
سامح عبدالرحيم الصحفي
مقالات سابقة للكاتب