أياماً معدودات ويحلّ علينا ضيفاً عزيزاً ، طالما اشتاقت له النفوس المؤمنة واستعدت له القلوب المخبتة التي توقن أن الأمر أمر الله والفعل فعله وهو فعّال لما يريد.
فقد قال أهل العلم إن القلب المخبت هو الساكن عند أى ابتلاء أو مصيبة أو همّ أو غمّ ، يقول قدّرَ الله وما شاء فعل ، فاستقبال رمضان هذا العام يختلف تماما عمّا كنّا نستقبله به ، كنًا نستقبل رمضان بجدول الدعوات للأقارب والزملاء والأصدقاء للإفطار والسحور والعزائم ، نستقبل رمضان بسفر إفطار الصائمين ، واللقاء في صلاة التراويح وغيرها من الاجتماعات والزيارات التي تجدول في رمضان ، عجباً كل تلك المظاهر والعادات التي عشنا عليها أزمنة مديدة ، تتعطل بين عشية وضحاها ،( لله الأمر من قبل ومن بعد ) ، فالله سبحانه حكيم في قضائه وقدره .
فنحن راضون بما قدّره الله بأن نكون في بيوتنا نستقبل شهرنا ، هو الذي أمرنا بالتقرب له في رمضان بأنواع من القربات الجماعية وهو الذي حجبها عنّا هذا العام ؛ ترى كيف يكون المؤمن مع رمضان في هذه الظروف وبأي نفسية يعيشها ، أيعيش همّا كيف يصلي التراويح بمفرده أو مع أسرته بينما كان تشدّ من أزره صلاة الجماعة والتراويح في المسجد ، أو مع جار وزميل يذهبا سوياً لجماعة أكبر في مسجد ما ، أو يذهبا للحرم بمكة أو تشّد من أزره تلك المنابر وهي تصدع بتلاوة القرآن وتلك المزامير التي تتغنى بالذكر الحكيم فترق لها القلوب وتدمع عند سماعها العيون ، أو يشدّ من همته وإقباله تلك الفترة بعد صلاة العصر عندما يرى المسلمين الصائمين كل منهم أخذ مصحفه وجلس بزاوية من المسجد وتشجع واقتدى بهم ينتظر الغروب ، عجباً كل تلك المظاهر الايمانية حُجبت عنًا ونحن نستقبل شهرنا – لا إله إلا الله – سبحانك ما أعظمك ،وما أحكمك ، وما أعدلك ، أنت الحكيم العليم ، والرؤف الرحيم .
خلقتنا فأحسنت خلقنا ، وأمرتنا فامتثلنا ، وابتليتنا فصبرنا ، لكن انظر أيها الفاضل بالجانب المضئ المشرق الذي بينه رسول الهدى ففي حديث أَبِي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤمنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.
فإن فقد المؤمن تلك العوامل التي يرى أنها تساعده في التقرب إلى الله في رمضان فعليه أن يصبر وينظر لها بأنها منحة في جوف محنة كيف ذلك ، نعم كون أن الله يقدر عليك أن تكون في منزلك معطل من كل أعمالك وارتباطاتك ويدخل عليك شهر رمضان الذي أنزل فيه القران ، شهر فيه الصيام والقيام وينظر الله تعالى إليك ماذا أنت فاعل وأنت لوحدك محجوز في بيتك ومع أولادك ..
أتعلم أن إكراهك لنفسك في رضى الله تعالى بالصيام والقيام للتراويح والمواظبة على قراءة القرآن ، هذا الإكراه للنفس وأطرها على ذلك من أعظم القربات لله تعالى ؛ لماذا لأنه أقرب للإخلاص ؛ بل هو الاخلاص وأنت في خلوة مع رب السماوات والأرض ساجداً وقائماً تحذر الآخرة وترجو رحمة ربك لا يراك الا الله ولا يعلم بحالك إلا الله ..
نعم هذه منحة من الله أن تتفرغ لعبادته وطاعته ، لو أردت أن تحجر نفسك لذلك بدون أمر لربما ما استطعت ولا نفذت ..
نعم منحة من الله وأنت تملك نعمتين ( الصحة والفراغ ) في هذا الشهر ففي الحديث عن ابنِ عباسٍ – رضي اللهُ عنهما – قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: « نِعمَتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصَّحَّةُ والفَّراغُ» رواه البخاري.
منحة من الله وأنت بين أولادك تعلمهم كيف يحافظون على الفرائض وكيف يصلون القيام ومتى يصومون ومتى يفطرون وبماذا يدعون ..
منحة وأنت متفرغ لقراءة القران وكثرة الذكر والدعاء
فعلينا أن نعقد العزم على أن يكون رمضان هذا العام ، شهر التوبة ، والإنابة ، والتسامح ، وتغيير السلوك إلى ما يرضي ربنا ، شهر المحبة والألفة والتقرب من الأسرة بالتوجيه والقدوة الحسنة ، شهر التربية للنفس والبعد عن كل ما يؤثر في استقامتها وإنابتها لله تعالى ، شهر القرآن قراءة وتدبراً وعملاً به وحث الأبناء بعمل جدول وورد يومي لذلك ..
شهر العزم على صلاة التراويح والقيام جماعة مع الأسرة
وأخيراً أيها المبارك ؛ احذر من جهاز الجوال ، فإن الغفلة وضياع أثمن الأوقات في رمضان مرتبطة به ، عبر التواصل الاجتماعي بمتابعة كل ما يعرض ، كن ذكياً ، وحدد أقلّ وأضيق الوقت للاطلاع على ما يفيدك ويهمك في أمور دنياك وأخراك .
ما أرحمك ربي ، فأنت رحيم بعبادك ، وأنت الغفور الرحيم
فاللهم ارحم ضعفنا ، واجبر كسرنا ، وبلغنا شهر رمضان ، وأعنّا على صيامه وقيامه ايماناً واحتساباً.
المستشار الأسري
د.صلاح محمد الشيخ
مقالات سابقة للكاتب