في منظوره التنموي الذي سعى له منذ أكثر من ربع قرن هو الإنسان وتنميته أولًا قبل تنمية المكان؛ لأنه يؤمن أن تنمية الإنسان هي التي تقوم بتنمية المكان، لذا وقبل ربع قرن ذهب -وهو ذلك القادم من شقاء صناعة المقاولات- إلى جمعية البر بجدة لأنه وجد أن بها فئة تستحق الاهتمام بتنميتها وتطويرها لكي يُلحِقَها بركب التنمية التي يشهدها الوطن، وعلى مدى ربع قرن ولا زال الشيخ صالح بن علي التركي أمين محافظة جدة يسعى خلف هذا الهدف التنموي العظيم؛ والذي استطاع من خلاله أن يصنع جيلًا من شباب هذه الجمعية اليوم الذي يعمل في مختلف مناحي الحياة التنموية بالوطن وبمواقع قيادية كبيرة، متسلحًا بالشهادات العليا التي قام -وعلى حسابه- بتدريس كل المتفوقين منهم بأعلى الجامعات العالمية، وعاد منها وهم من الكفاءات التي يبحث عنها الوطن. هكذا هي رؤية أبي فيصل في تنمية الإنسان، وقبل رحيله من هذه الجمعية واصل الليل بالنهار للعمل من أجل أن ترتكز هذه الجمعية على متانة مالية كبيرة، وأفق تنموي مستدام لا ينقطع لتواصل بتحقيق الرؤية التي رسمها لها بتنمية الإنسان.
إن شغف هذا المفهوم المترسخ بداخل الشيخ صالح التركي جعله يُنقِّب عن مكامن الفئات التي تحتاج إلى تنمية بشرية والوقوف بجوارها، وكان ذلك من سنوات طويلة منذ أيام رئاسته للغرفة التجارية الصناعية، وأثناء هذا السعي التنموي الطامح الجلي في شخصية “أبي فيصل” وجد ضالته في فئة من الفئات المسكونة بالوجع والصمت والحاجة، فئة من بنات هذا الوطن وهي فئة غالية وعزيزة، فصاح بأعلى صوت لمجتمع الأعمال بمدينة جده لأجل بناء شيء تنموي لهذه الفئة وعندما تأخر الرد على صوته انبرى لهذه المَهَمَّة وحيدًا رغم تكاليفها الكبيرة التي تجاوزت على ما أظن الثمانية ملايين ريال مُعلِنًا أنها عمل تنموي وليس ربحيًّا، وإنْ حَمَلَ اسمَ شركته، ليؤكد هذا الفارس القادم على صهوات البيزنس أن خدمة التنمية البشرية أولًا هي التي تؤسس نمطًا اقتصاديًّا فعالًا في منظومة الاقتصاد الوطني، لهذا أسس لهذه الفئة “مركز نسما للتطريز والخياطة” والذي يحتوي هذه الفئة الغالية، رغم أنه حاول أن يكون هذا المركز يومها رسالةً من القطاع الخاص بجدة لهذه الفئة، ومساندة الوطن في مشاريعه التنموية البشرية إلا أنه سقط في يده فواجه تأسيس هذا المشروع بنفسه وعلى نفقته الخاصة، على أن يكون مشروعا ربحيًّا لهذه الفئة دون أن يكون له أي عائد ربحي لصالح “نسما” التي يملكها، وبما أن الأعمال بالنوايا فقد حقق الشيخ صالح من هذا المركز من عامه الأول نجاحًا كبيرًا ربحيًّا وتنمويًّا؛ مما جعله يبحث عن أول الأراضي الخصبة لزارعة هذا المركز فيها، وبما أنه يعرف تلك المحافظة القريبة والتي تُعَدُّ الحديقة الخلفية لمدينة جدة والأقرب إليها، وله بها تجارب تنموية أسهم من خلالها تجاوزت السنوات وهو ترميم أكثر من 50 منزلًا بها “إنها خليص” التي استقبلت ثاني مراكز “نسما للتطريز والخياطة”، مركز تدريبي وتعليمي لبنات المحافظة، وأسهم خلال العشر السنوات الماضية بخليص في تأسيس جيل من بنات “خليص” المتميزات في هذه الصناعة واللاتي شكلن مرحلة كبيرة من تطورٍ جعل البعض منهن متفوقات كمصممات على مستوى رفعة هذا الوطن، والأساس كانت رؤية الشيخ صالح التركي، ولهذا الصدى الإيجابي والروح الوثابة لديه للإنجاز التنموي أسس ثلاثة مراكز أخرى أحدهما في “ثول”.
ولخليص في ذاكرة الشيخ صالح التركي حضورٌ توَّاق دومًا؛ وذلك للعديد من الأسباب ومن أهمها القرب والمكان الجغرافي التنموي الذي تحظى به من بين المحافظات الأخرى؛ وهو الذي يحمل رؤية تنموية أيامَ كان رئيسًا للغرفة التجارية الصناعية بجدة عندما طرح فكرة تأسيس شركات تنموية لقيادة هذه التنمية بكل محافظة، على أن تتكون كل شركة من أهالي وشباب المحافظة والمدمجة من مجموعة رجال أعمال كبار يملكون القوة المالية والخبرة الإدارية والتسويقية لنجاح هذه الشركة إلا أنها لم ترَ النور بعد رحيل الشيخ صالح التركي من غرفة جدة وهو مَنْ قاد دارسة تحويل مدينة رابغ إلى مدينة لوجستية، وأذكر أيامها أن هذا الفريق شُكِّل برئاسة الدكتورة لمى السليمان عضو مجلس الإدارة، وهذه المحطات التنموية هي التي جعلت منه رجلًا صانعَ تنمية بالقطاع الخاص والخيري وآخَر بالجهاز الحكومي.
ومنذ أن جاء إلى موقع أمانة جدة وهاجس تنمية الإنسان لم يختفِ من ذاكرته، بل أصبح اليوم في هذا الموقع يمتلك الكثير من الأدوات الفاعلة والصلاحيات التي وجدتها عندما اجتاح فيروس كرونا قرية من قرى محافظة خليص قرية “الفج”، وتفاعل مع اتصال مُواطِن جاء إليه قادما من وسط قرية تسكن الأوجاع بداخلها، من أطراف قرى محافظة خليص بسبب أوجاع قلة الخدمات البلدية والكرونا، وتفاعل معه شخصيًّا بل تَواصَل معه بشكل يوميٍّ للوقوف على حالة القرية، بل كلف فريقًا من قيادات الأمانة للذهاب إلى موقع القرية، لم أستغرب على أبي فيصل ذلك؛ لما أعرفه عنه منذ ربع قرن رافقتُهُ بها خلال عملي الصحفي وهو أن تنمية الإنسان لديه أولًا، بل هناك قصص عجيبة لهذا الرجل لولا أني أعرف أنه لا يرغب في الكشف عنها، ولو كشفتُ عنها لكانت إشعاعًا إنسانيًّا ومفهومًا حقيقيًّا لما يحمله من طموح تنموي لهذا الوطن العظيم.
عبد الله الطياري
عضو المجلس الاستشاري بمحافظة خليص
مقالات سابقة للكاتب