لقد تفكرت في أمر الأرض كيف تكون حالها اذا لم يبعث الله الغراب حين قتل قابيل أخاه هابيل ليعلمه كيف يواري سوءة أخيه بعدما ارتكب جريمته وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ..
لم يرتكب هابيل جرماً يستحق عليه القتل بل قتل مظلوماً كما هو الشأن في معظم من قُتِلَ منذ بدءِ الخليقة إلى أن ينادىٰ لفصل القضاء ، ولقد تعجبت كثيراً من السبب الذي دعى قابيل لارتكاب جرمه في حق أخيه المظلوم لا لشيء سوى الحسد ، أول ذنب أُرتُكِبَ من قبل المخلوقين لبعضهم وقد بدأه ابليس حين حسد أبانا آدم عليه السلام ولأنه كان سبب طرده من جنة عدن أقسم ليمشين في بنيه ويوسوس لهم بهذا الذنب إضافة إلى الكبر والتعالي ويزين لهم طريق الهلاك، ولو تفكرنا قليلاً وأمعنا النظر لتبين لنا أن معظم ما تُرتكب من جرائم إنما هو بسبب الحسد لم أُعطِي فلانٌ ولم أُعطىٰ أنا؟ إذاً لأقتلنه أو لأسلبن ما أُوتِي وأُعْطِي وأجعله لي أو فلنكن سواسية وهلم جرا …
نعم كيف ستكون الأرض اذا لم يدفن إبن آدم أخاه ويستر سوأته بالتراب ربما كنا سنرى العجب العجاب من سوءات الناس ولكن رحمة بعباده وعبيده أرسل الله الغراب المعلم الأول لكي يعلم إبن آدم كيف يواري ويستر جثة أخيه ..
فسبحان الله في كل شيء له حكمة ، فليقف الإنسان لحظة مع نفسه يتأمل فيها حاله فسوف يقول في نفسه إن أنصفها وآثر العدل على الجور لقال أيها المسكين الذي يتكبر في الأرض ويتعالى على خلق الله ويدعي الأفضلية له لمجرد أن أوتي مالاً أو جمالاً أو مكانة فإذا به يرفع عقيرته ويشمخ بأنفه استكباراً وغروراً واستعلاءً ونسي المسكين إنما هو إبن الموت وابن التراب ومأكول التراب غداً والذي كان ينادىٰ بكل الألقاب الرنانة وذلك الشرف الذي كان يدعيه فبمجرد خروج الروح منه يسمى جثة أو جثمان أو ميت حتى الاسم الذي كان يتباهى به لن يُنادىٰ به مرة أخرى إلا كتابة في شهادة الوفاة ، وصدق الشاعر حين قال :-
يامدعي الكبر اعجابا بصورتــه انظــر خلاك فان النتن تثريــب
لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
ياابن التراب ومأكول التراب غداً
أقصــر فإنـك مـأكــول ومشــروب
نعم فإنك مأكول مشروب من قبل الدود، اذاً كيف ستكون حال الأرض مع هذه الجثامين والجثث التي تفوح منها رائحة الكبر والغطرسة والاستعلاء فيا لها من رائحة تزكم الأنوف ولا تتقبلها الأنفس…
أيها المتباهي أنت وأخوك الذي تحتقره لأي سبب كان مما يخططه لك إبليس ، أنتما متساويان برغم الفوارق إذا كنت تظن أن لا أحد يساويك فاعلم أن التراب حاكم عادل يساوي كل البشر ويجعلهم سواسية حين يعودون إليه جثامين باردة لا روح فيها…
ولقد أبدع الشاعر إيليا أبو ماضي حين تكلم عن القبر في قصيدته الفلسفية الطلاسم يقول ويخاطب النفس الأمارة بالسوء :- أنظري كيف تساوى الكل في هذا المكان….
وتلاشى في بقايا العبد رب الصولجان….
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان….
نعم هو كذلك وحتى وان لم يرضى به المتغطرسون فالقضية محسومة…
ويقول الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري في ذات الشأن يخاطب الذين يمشون على الأرض باستعلاء وكبر :-
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً
لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ
في طَويلِ الأزْمانِ وَالآبادِ.
نعم أيها الغراب المعلم .. قد بعثك الله لتري الظالم كيف يستر ما ارتكب من الإثم كي يستطيع العيش على الأرض ، وهذه رحمة من الله به ربما يعود إلى رشده ويخضع ويترك الكبر والغرور والعنجهية الفارغة والحسد ، فقد تبين أنه مع كل ما فعل هو ضعيف لا يستطيع حتى أن يكمل ما بدأه من ظلم ، أيها الغراب المعلم نحتاج إلى تعليم فهل عندك من علم لنا نحن المتأخرين فهلم به إلينا….
وأخيراً…
إلى الديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصومُ.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب