(١) ليلة عسيرية باذخة.. رسم خطوطها العريضة صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال بن عبد العزيز أمير منطقة عسير الشاب.. المتطلع فخراً واعتزازاً، المتجذر انتماءً، والمتحفز عطاءً وإنجازاً.. أقول ذلك .. بعد لقاء ماتع في مكتب سموه حيث المباشرة والوضوح والعمق الفكري والتاريخي، والحدس المجتمعي العالي.
ومن هنا أسميته “الواثق بالله” وبنفسه ، ثم بفريق العمل المتجانس الذي كونه واختاره لهذه المسيرة التنموية التي تمر بها منطقة عسير في ظل الرؤية الوطنية 2030.
كنت -قبل اللقاء- أتابع خطوات الأمير الإصلاحية، ومنجزاته التنموية عبر وسائل الإعلام الجديدة.. ولما التقيته ضمن الوفد المشارك في الندوة التاريخية الوطنية (عسير والعثمانيين)، واستمعت إلى كلماته وإلماحاته التاريخية والاجتماعية والتنموية، وقفت شامخاً ومفتخراً وشاكراً أن في بلادي أمثال هذا الأمير الشاب الممتلئ حيوية وعزيمة وعملاً وإنجازًا.
وإن شاء الله سيكون مستقبل الوطن بخير لأن هؤلاء الشبيبة من آل سعود هم الأمل والمستقبل الذين سيقودون المسيرة، ودعواتي لهم بالتوفيق ودوام التقدم والإنجاز.
(٢) نعم ليلة عسيرية باذخة، نقش حروفها التفصيلية جمعية التاريخ السعودية/ فرع عسير برئاسة الأستاذ الدكتور سعد آل عثمان ومشاركة عضو مجلس المنطقة الدكتور عبد الرحمن آل مفرح.
وأخرج فعالياتها وأبرز جمالياتها مجموعة (نشامى عسير التطوعية)، ورجال قبيلة آل ينفع التي استضافت الندوة التاريخية الوطنية في الميدان المخصص للمناسبات في وسط القرية التراثية التي تم ترميمها وإحياءها مؤخراً بجهود ذاتية من رجالات القرية ودعم سخي من أمير المنطقة حفظه الله.
(٣) نعم ليلة عسيرية باذخة وفاتنة، ليلة الأحد ٣/٢/١٤٤٢هـ.
ليلة وطنية بامتياز، اتخذت من المكان والزمان والإنسان ثلاثية اندماجية فاعلة لاتنساها القبيلة ولا التاريخ ولا الإنسان الذي شارك في هذه الفعالية.
ولما كنت أحد ضيوف الأمير حفظه الله، والجمعية التاريخية سددها الله ، كانت مشاركتي في هذه المناسبة عبر السطور الشعرية والتاريخية التالية.
(٤)
إلى أبها حملت الشعر صفوًا
وأحلى من هديـلك يا حمـامُ
وأندى من بكاء الطَّلِّ فجرًا
وأسنى من هطـولك ياغمـامُ
لأن بها كـرام الأصل طبعًـا
وفيها الطيب عالٍ.. والمقامُ
وأنت تقود (ياتركي) فريقاً
طليعـيَّ التوجـه لا يُضـامُ
فريقٌ ألمعيٌّ.. لوذعـيُّ
تجانس في المهمات الجِسامُ
شباب من عسير لهم صباحٌ
أضاء الشمس فانزاح الظلامُ
لهذا جئتكم أمتدُّ صحوًا
تتوِّجُـه المحبـة والوئــامُ
حروف الشعر أنثرها جمالًا
على أبهـا.. وفيها مايرامُ
ففيها الشهم ذو الإقدام تركي
أبو (عبد العزيز) أخٌ هُمامُ
تنامى في القيادة منتهاها
وفي فن الإدارة لا يُـلامُ
على خطواته ينساب مجدٌ
وعن أمجاده يحلو الكلامُ
سلام (آل يَنفَع) يا رجالاً
لهم ذكرٌ وعزٌّ واحتـرامُ
فقد سطرتم التاريخ يروى
لأيام مضت فيها الكـلامُ
سلام يا أهالي المجد حتى
يقول الكون مثلي، والسلامُ
لا شك أن التاريخ لا يمكن أن يمحو آثار الدول السالفة سواء الإيجابي منها أو السلبي، وهذا مدعاة لإعادة النظر دائما، وتقليل المسلمات لعلها تسفر عن قناعات جديدة، وتحولات رئيوية.
ولعل هذه الندوة تأتي في سياق المراجعات الفكرية لما استقر في الأذهان عن الدولة العثمانية التي مرت بفرتين فترة العثمنة.. وفترة التتريك!!
# مايهمنا هنا أن (عسير مطلبها عسير ودون جبالها برق ورعد).. كما يقول القصيبي -رحمه الله-.
نعم جاءت الدولة العثمانية وجنودها واستقروا في عسير على قلب وخوف وأمام شعب لا يرضى بالحكم الأجنبي مهما تدثر بالإسلام.
فالعسيري وابن الجزيرة العربية لديه نزعة عروبوية/ قومية، ولديه نزعة الحرية والاستقلال والكرامة والإباء ولا يرضى أو يقبل أن يكون تابعاً في أرضه وموطن أجداده. نعم يهادن.. ينتظر.. ولكنه سوف يقاوم حتى النصر أو الشهادة.
أذكر هنا نموذجًا واحدًا:
بعد انتصار العثمانيين عام ١٨٣٤م أسروا كثيراً من الرجالات والقيادات واتخذوهم رهائن ونفوهم إلى تركيا ونواحيها.. مثل: سعيد بن عايض، عبد الرحمن بن مفرح، لاحق الزيداني، فايز العسبلي، أحمد عبد الخالق الحفظي.. ورغم ذلك لم ينهزم العسيريون ولم يتقبلوا الوجود العثماني/ التركي “فطغى حب الحرية والاستقلال على العواطف الأبوية والأسرية – والفرد يضحي بالعائلة والأسرة من أجل الوطن والأمة” كما يقول أحد المؤرخين.
# العثمانيون وإدارتهم المحلية في عسير كانت تحاول استرضاء الناس والقيادات البارزة لإقناعهم بقبول الواقع السياسي.
هناك وثيقة عبارة عن رسالة من أحمد فيضي باشا متصرف عسير إلى أهالي المنطقة وخاصة قبائل رجال ألمع يحثهم على ضرورة احترام الشيخ أحمد الحفظي وقبول النصيحة منه.
وهناك موقف تاريخي يؤكد هذه السياسة العثمانية لمحاولة استرضاء الأهالي فقد تم تعيين الحسن بن علي بن محمد آل عايض وكيلًا للمتصرفية وهذا استثمار لاسم شخصية بارزة من آل عايض لتخفيف نقمة الناس على الوجود العثماني في المنطقة.
# وأهم من ذلك كله، ماجاء في مذكرات سليمان شفيق باشا متصرف عسير قبل الأخير ففي الحلقة الثالثة المنشورة في الأهرام ١٣/٤/١٣٤٣هـ = ١٠/١١/١٩٢٤م يشير ويعترف أن حكومته العثمانية كانت عاجزة وضعيفة ولم تستطع إقرار الأمن في عسير والمحافظة عليه، وأنها حكومة متسلطة تهمل حقوق الناس، وأنها لم تصنع في عسير شيئًا من أسباب العمران والتعليم ولم تقم بأي شيء فيه نفع للأهالي وكل همهم تحصيل الزكاة!!
وهذه شهادة من أحد رجالات الدولة العثمانية وكان متصرفًا في عسير.
# النقطة الأخيرة التي أختم بها مداخلتي:
وثيقة هامة محلية تبين مظالم العثمانيين في عسير ودور العسيريين في الثورة والحرب على العثمانيين:
# أرسل الإدريس حاكم صبيا والمخلاف السليماني رسالة إلى قبائل عسير السراة ويذكرهم بالإسم في الوثيقة: بني مغيد وعلكم وبني مالك وربيعة رفيدة وفيها تأكيد على:
- ظلم الأتراك للعسيريين في الأنفس والأموال
- الترك آلات للفساد والظلم والجور
- يطالبهم بالانضمام إلى ثورته لطرد الترك من البلاد كما طردوا من كل بلاد المسلمين.
وفي وثيقة أخرى: أهالي رجال ألمع وقد انضموا إلى الثورة والحرب مع الأدارسة على الأتراك في أواخر عام ١٣٣٥هـ = ١٩١٧م يطالبون الإدريسي بالتزويد بالسلاح والعتاد والذخيرة لمواصلة الحرب ضد الأتراك فتشير الوثيقة -وهي تقرير من مساعد المقيم البريطاني في عدن رايلي: أن عشرة من رؤساء رجال ألمع اجتمعوا وأرسلوا ذلك الطلب للإدريسي وأخبروه عن الأعمال الحربية والعسكرية في منطقتهم وانتصاراتهم العديدة ومنها:
” إنني أقسم أن أحداث ليلة الإثنين كان لها صداها في السراة وتهامة. ففي الليل والنهار نغير عليهم ونقتلهم. ونعلمكم أن الذين يقومون بالعمليات منهم في حالة سيئة”!!
هذه كلها شهادات وثائقية تبين موقف العسيريين من العثمانيين/ الأتراك حتى أجلوهم وأخرجوهم وتظل عسير منيعة على كل أفاك أثيم..
(٥) نعم لقد كانت ليلة ماتعة، ليلة استثنائية، احتفلنا فيها باليوم الوطني التسعين احتفالا غير عادي ولا تقليدي… احتفاءً تاريخيًا، واحتفاءً بالمكان الذي شهد متغيرات حضارية وتنموية سعودية بعد أن شهد أحداثًا مأساوية قبيل الحكم السعودي.
شكراً لسمو أمير المنطقة الذي دعانا وأشركنا في هذه الفعالية وأطلعنا على المسيرة التنموية التي يقودها في عسير مع فريق عمله المميز.. وشكراً لكل من قابلناه وسعدنا برفقته من المؤرخين والمؤرخات، والشكر الجزيل لجميع الأخوة الذين كنا في معيتهم احتفاءً واستضافةَ واستقبالاً.. شكراً للأخ الدكتور عبد الرحمن آل مفرح وشكرا للأخ الدكتور سعد آل عثمان وشكراً للأخ يحيى مداوي من المراسم والعلاقات وكل الشكر للسائق المرافق الأخ طلال الفيفي حفظه الله.
وفق الله الجميع.. والحمد لله رب العالمين.
د. يوسف حسن العارف
مقالات سابقة للكاتب