حقيقة إن أسلوب القرآن الكريم في المخاطبة هو أسلوب يريح النفس ويبعث فيها الطمأنينة والسكينة والسلام ، فقد تأملت كثيراً في هذا الأسلوب وكيف لا وهو كتاب الله ( الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ..
فعلى سبيل المثال لا الحصر ، ومن ذا الذي يستطيع أن يحصر ما في كتاب الله عزوجل ، فمهما تبارت الأقلام والإلهام والعقول فستظل تراوح مكانها …
لقد تأملت قصة النبي سليمان عليه السلام وحواره مع “الملكة بلقيس” ملكة سبأ في شأن عرشها ، فحين إستقر عرشها عنده سألها … ، “أهكذا عرشك” ؟ ، فلم يقل لها “أهذا عرشك”؟ .. ، وهذا أسلوب غاية في الروعة أو كما يقال الآن غاية في “الدبلوماسية” ، أي هل هذا يشبه عرشك ليسبر أغوارها ويستطلع ما تتميز به من مميزات ، وهو الأمر الذي جعل قومها ينصبونها ملكة عليهم في وجود الرجال ، فأجابت بعقل الملوك الجديرين بإدارة مملكة ( مملكة سبأ ) ، ولم تتعجل بل تريثت وأمعنت العقل الحصيف والبصيرة النافذة والخبرة والتجارب التي أهلتها لأن تكون ملكة برغم وجود رجال وهم مستشاروها ، أجابت ( كأنه هو ) برغم أنها ربما كانت متأكدة بنسبة كبيرة أنه هو ، ولو كانت كأي فرد من العامة لقالت نعم إنه هو هو ..
فماذا يكون إن لم يكن هو ، ستكون حينها قد أصدرت حكماً مستعجلاً وبهذا تسقط من أعين الحاضرين وسيرونها غير جديرة بحكم هذه المملكة وهي تصدر حكماً إرتجالياً مستعجلاً ، لكنها تركت لها خط رجعة بحيث لو لم يكن هو لكانت إجابتها صحيحة ولو كان هو فإجابتها أيضا صحيحة ..
وقبل ذلك حين أرسل لها النبي سليمان بكتابة جمعت مستشاريها وأطلعتهم على حقيقة وفحوى الرسالة (الكتاب) وكانت منصفة تماماً في وصف الكتاب ، برغم أنها جاءت من ملك ربما سيغزو بلادها ، ولم ترتجل رأياً مستعجلاً …
وهنا الفرق بينها وبين فرعون الطاغية الذي ألغى كل عقول مستشاريه ورجالات بلاطه ووزرائه ولم يأبه باستشارتهم ، وقال في تهور وطغيان وجبروت : ( ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) ، برغم أن رأيه لم يكن فية ذرة من رشد أو رشاد ( وما أمر فرعون برشيد ) ، فأورد قومه موارد الهلاك بتهوره وطغيانه واستبداده (فاوردهم النار بئس الورد المورود ) …
نعم لقد كانت منصفة حين وصفت الكتاب بأنه كريم ( انه ألقي الي كتاب كريم وإنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) ، وصدق الله العظيم حيث يقول (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلو هو أقرب للتقوى).
وفي النهاية ولسبب أنها إحترمت العقول ( عقول مستشاريها ) ردوا الأمر برمته إليها إعترافاً بجميلها ( والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) ، ونحن طوع أمرك فوجهينا ..
نستنبط من هذه القصة ويستفاد منها عدم التسرع في الحكم والتريث وتقليب الأمور ظهراً لبطن ، واستشارة ذوي الآراء الحكيمة والصائبة وعدم الإستبداد بالرأي الواحد والإستعجال في الحكم ، فإن العقول إذا إجتمعت ستخرج بأفعال وأقوال حكيمة صائبة غير الرأي والعقل الواحد الذي ربما يورد صاحبه ومتابعيه موارد الهلاك باستبداده ..
لذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب الإستشارة فقال ( ما خاب من استشار ولا ندم من استخار ) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم “بأبي هو وأمي” من معلم قدير ، بل كم من المرات قد إستشار أصحابه في أمور مصيرية وهو الذي يأتيه الوحي من السماء ، ولكن لكي يخرج أمة واثقة من نفسها بعد عون الله ، لذا فقد رأينا هذه الأمة بعدما كانت متشرذمة متفككة فإذا بها تقود العالم إلى الرقي والسمو والرفعة والخير ..
وما ضاعت الأمور من أيدي البعض إلا بالإستبداد بالرأي الواحد وأعقب ذلك ندم حين لا ينفع الندم …. فو الله لو تمسكنا بكتاب ربنا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وعملنا بما فيه من تعاليم وإرشادات وطبقناها على أرض الواقع في تعاملاتنا لما حدثت أمور حاولنا أن نستدركها فعجزنا عن ذلك … وهذا على مستوى الأفراد والجماعات …
والإستبداد بالرأي فعل مقيت لا يأتي بخير أبداً .. ويجب على المرء أن لا يحتقر أي رأي مهما كان صغيراً ، فرب رأي خلناه لا شيء فإذا هو يأتي بكل شيء .
وأخيراً فقد مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين في أمر الشورى ، إذ يقول الله تعالى ( الذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) الأية 38 من سورة الشورى .
والله الهادي إلى سواء السبيل.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب