(من لسجين الغربة؟)
كم في الواقع من القصص المعبرة التي – لو نطق بها – لأصغى له السامعون بلا ملل ..
وكثير منها نلمس بوضوح أن عناصرها لاتتجاوز ثلاثة أو أربعة ، لكن واقعيتها تجعل روايتها تقترب من الخيال !
فسيناريوهات الأفلام والتمثيليات تستلزم عددا من الممثلين ، وزمنا من البروفات ، وانتقاء للمبدعين المتمرسين .
وأكثر مايشقي المخرجين تمثيل المشاعر !
لكن الواقع بقصصه ينطق بمبادئ قيمة ، ويكتب بقيم سامية ، تغذى بها أشخاص من ينابيع الهدى التي ارتوت بعذبٍ نقي من السماء نزل ( إن هو إلا وحي يوحى ) فأنبت أخلاقا ذات بهجة ..
الواقعة التي سأرويها لكم قصة من الواقع الحديث أوجزها فأقول :
وافد جاء ليعمل ، غير عربي ، وكم علمنا من أحوالهم ، فقراء تركوا خلفهم والدين وعيال يحتاجون لقمة تسد جوعهم وثوبا يستر عريهم ، وهم مسلمون هكذا قدرهم .
-كان يسير بمُعِدّةٍ صغيرة ليلا ، ماشعر إلا بصريخ دواليب سيارة (تصرخ تفحيطا ) على الإسفلت خلفه ثم تنحرف وتصطدم بالجسر المحيط بالطريق وتنقلب بطنا على ظهر !
واصل سيره ،لكن الشرطة قبضت عليه واتهم بأنه السبب في الحادث ! وأودع السجن ، وحُمّل التعويض عن كامل تلفيات الحادث ، ومن أين لطالب المال أن يعطيه ؟ أصبح غريبا فقيرا سجينا مطلوبا ، لو عُرض عليه الموت لاختاره من دونها !
وباءت بالفشل كل محاولات بني جنسه الذين حاولوا مساعدته ، ولم يجدوا لاسعدا ولاسُعيدا ولاشصعا من خفي حنين ..
وهم في حسرتهم قال لهم آخر عبر الهاتف اذهبوا لفلان ، هناك في قرية أخرى ، (سعودي مطوع) هكذا قالوا …
جاؤوه بليل ، فهم عمال مرتبطون ، وربما خلفهم جبارون ، يكذبونهم إن قالوا ، ولايأمنونهم ولايثقون في وعد منهم ، ويغرمونهم ويحملونهم تكاليف مالية ليست من مسؤولياتهم ، ويضطرونهم للتنفيذ تحت سلطة التهديد بالخروج بلا عودة .
-جاؤوه بليل وشكوا حالهم قبل حال السجين وطلبوا منه المساعدة لفك أسره وأخبروه أن عجوزين هناك هما والداه وأطفال هم أولاده وأمهم تكاد أكبادهم تتفطر حزنا وخوفا عليه لاينفكون بكاء !
يقول لي الرجل : رققت من حاله وحالهم ، لا أعرفهم ولاهم يعرفونني ، لكنني عزمت على فعل كل مافي وسعي لمساعدتهم ، وشجعت نفسي أخاطبها قائلا ( لو جاءك أحد من القبيلة أو ممن تعرفين كيف ستفعلين ، وهؤلاء المساكين لاحيلة لهم ، أقفلت الأبواب في وجوههم ؟) – تواصل الرجل مع الجهات الرسمية ليعرف ما المطلوب من هذا الغريق ليشم هواء الحياة ، ثم مع بعض أهل الجاه والمكانة ليساعدوه لكن لم يتحقق شيء ، لايجد إلا ضعف العزيمة قد كساها البرود فانقعرت بأصحابها ، حتى أنه لم يجد من يصحبه فيما قرر فعله ، فشد ركابه حتى وصل لصاحب الحق واستطاع أن يصل معه لاتفاق بصعوبة ليدفع تعويض مالي كبير ويحصل على تنازل منه ولم يمهله للدفع سوى أربع وعشرين ساعة أو يمسي الاتفاق لاغيا ..
وخرج الرجل يستجدي ويسترفد ، جمع المبلغ المطلوب وسلمه في الموعد المحدد ، وقد ذكر لي ما تعجب منه من سخاء المقلين وكرم الموسرين وكان أكثر ماناله من التعجب أن نساء شاركن ماليا ولسنا صاحبات دخل !
وامرأة تعرض إسورتها الذهبية للمساعدة ، وحُقّ له أن يعجب فتلك قيم المسلمين يجدها حية لم تزل ، والعرب منهم والله هم أولى بها ، فتلك أخلاقهم من غابر الأزمان .
حصل الرجل على التنازل ، وبقي استكمال إجراءات إخراج السجين ، فجند نفسه وصرف من وقته ليراجع الدوائر المعنية وهي على مسافة سفر ، حتى تم الإفراج عنه ، لكن هل تتصورون كم المدة كانت ؟ إنها عام كامل !
وخرج لكنه ليخرج كذلك خروجا بلا عودة !
ومن المحزن كثيرا لو صدق ذاك الصوت الذي كان يتمتم قائلا( إن في تقرير الحادث إنّا) وليس هذا مايعنيني من سرد هذه الواقعة ، إنما لأقول لازلنا بخير ، وهذه واحدة من شواهد مبادئنا وقيمنا ، نحن أمة الإسلام، وأن فينا من لايزال يقرأ ويعي قوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة ) وقول نبينا صلى الله عليه وسلم ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).
مقالات سابقة للكاتب