20 عاماً عن قريتي

 استيقظتُ لأداء صلاة الفجر في قريتي التي ترعْرعت بداخلها ، واستقبلتني بأحضانها عندما كنتُ صغيرًا في سن الطفولة ، فذكرى الطقوس الوجدانية في هذه القرية يفيض شوقًا لأيام الأطلال ، فقضيت سنوات المراحل التعليمية صوبها ( الصّدر ) وجُعل لاسمها حظًّا وافرًا في اللغة العربية ، فمأخذوة من أعلى مقدّم الشيء وأول النهار ومستقبله ، حيث قدمتني لأيام الحياة نحو مستقبلٍ مشرق ..

دخلت المسجد الذي يقطن خلف بيتنا فرأيت مكان ( والدي ) في الصف الأول لكل صلاة ، ولكن لم أجده في هذا المكان ، رغم سجادته أمام بصري ،  فتذكرت وقت دفنه والصلاة عليه في الحرم المكي فجر الجمعة ، وسرعة جنازته ونحن ذاهبون به إلى مكان الاختبار وتحديد المصير ، فأوقفتني آية الرحمن { كلُّ منْ عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ، فقلت رحمك الله يا والدي ..   

كان الجو باردًا وقاسيًا في برودته ، ينطق الجسم من زمرته ، وحنفية الماء تتكلم بماء الثلج ، فتذكرت حينها يتامى المسلمين وضعفاء الأرامل واحتياجات الفقراء ، فمن لهم ..؟ ومن يعطيهم ..؟ ومن يتكلم بلسانهم ..؟ ومن يقدر أنفاسهمْ ..؟ ومن يستغيث بلسانهم ..؟ ومن .. ومن ..؟ فأصبح الجار ينتهك خصوصيات جاره ، ويؤذيه حتى يكاد يقتله ، وينام متغطّيًا مكتسيًا وجاره يلملم بطنه من الجوع ، بل أصبحنا نتفاخر بكفر النعم ، فهذا يستخدم الدراهم مكان الهيل في احتساء قهوته ، والآخر يتفاخر بعشاء ضيفه بأطعمات تكفّي مئات الفقراء ، فمن أوصل مجتمعاتنا لهذا الفكر الأخلاقي ..؟ ومن أعطاهم الضمان والأمان لهذا الانهيار المحلي ..؟

زرت أحد المطاعم في القرية المجاورة لنا ( الطلعة ) ، حيث كنت أذهب إليه قبل ١٥ عامًا وأنا في سن الثانوية ، فقلت يا الله ما أشبه الليلة بالبارحة ..! وما أسرع تلك الليالي والأيام ..! وما أعظم الأحداث والأقدار التي انتهت في لحظة جنونية خلال هذه الفترة ..! فمررت على مدرستي الثانوية ، فاستوقفني خلال كل هذه الأيام الجميلة ، جمال ذلك التربوي ( المرشد الطلابي ) في مدرستي ، فكان تربويًا ناجحًا يدير هموم طلابه ، ومشاكلهم واحتياجاتهم بابتسامته التي لا تفارقه ، ويعمل على النهوض بنا كلما استعطبتنا الحياة ، وافتخر بأنني تخرجت من تحت يديه ، فنعم المربي ونعم القائد التربوي ، فهو أستاذ ومربي أجيال ثانوية الطلعة آنذاك ، عبدالله بن مبيريك الصعيدي ، فيا رب بارك في عمره وأحسن عمله وارزقه من حيث لا يحتسب .. فالمربي رسالته عظيمة تخلد بأذهان طلابه لفترة بعيدة المدى ، فهو الناقل الحصري للبيئة التعليمية ، وهو الحبل السري بين المدرسة والمجتمع ..

خطف ذهني تأملات الوداع والفراق وأيام مضى عليها ٢٠ عامًا من الدهر ، بإحدى القرى المجاورة لنا ، حيث تعلمت المرحلة الابتدائية بداخلها قرية ( الشيوخ ) فكانت تحمل مدرسة من مدارس التاريخ الإبداعي ، مدرسة ( قتيبة بن مسلم ) ومؤسسها فكريًّا وقياديًّا ( أبو عصام ) _ الأستاذ عبدالعالي الشعيبي _ أطال الله في عمره ، ورغم كل أبوبته علينا إلا أنه اتصف بصفة ( الجلاد القوي الأمين ) ، فتخرج على يديه الكثير من القادات في هذا الزمان ..

واختطِف بصري بلحظة الذكريات لمكان خلف مدرستي ، فسكبت الدمعة وذرفت العيون ، فقلت يا رب ارحمها واغفر لها وادخلها جنتك ونعيم خلدك ، فهي ( جدتي ) أم والدتي ، فكنت أذهب إليها أحيانا بعد المدرسة مشيًا على أقدامي وعمري لا يتجاوز التاسعة ، فكانت أمي وساعدي ، تعطيني كلمات حنانها وجمالها ..

استوقفتني ملامحًا تربوية في هذه السياحة الداخلية لرحلتي المصغرة في قريتي التراثية ..

** استحضار نعم الله علينا بحفظها والعمل على تفقد المحتاجين ، ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .. وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه ، فالجار لجاره وإن خلا الزمان والمكان ..

** أيقنت بأن البكاء على الأطلال مجرد تنفيس وترويح ، فالدعاء لساكنيها هو ثمرة تلك المواقف التي قضيتها آنذاك معهم ..

** أدركت أهمية المربي في المؤسسة التعليمية وقوة نجاحه وفشله من خلال مشروع ابتسامته مع أبنائه ..

< ومضة > 
قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزلِ .. بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

 

فيصل السلمي

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “20 عاماً عن قريتي

مسعود البلادي

بارك الله فيك يا فيصل
وثبتك على دينه

ابن بذال

مقال لطيف جدا يعبر عن مرابي الصبا واطلالها والوفاء لاهلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *