الحمدُللهِ الذي أَلَّفَ بين عِبَاده، وجمعنا على طَاعَتهِ ومَرْضَاتهِ.
والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى عَبدهِ ورَسُولهِ
وصَفْوتهِ من عِبَادهِ نَبينَا مُحمدٍ
وعَلى آلهِ وصَحْبهِ أَجْمَعِين.
أمابعد…
فكثيرةٌ هي المواقف التي تَمُرُ بنا، وتؤثر فينا، وسواء كان تأثيرها سلبًا أم إيجابًا، لكن الجميل أن نخرج من بعض هذه المواقف بدروس وعبر، ربما لوكانت هذه المواقف ممنهجة لما فهمناها، ولما أخذنا منها ذلك الوعي والعضة التي تركته فينا من قيم ومفاهيم ربما كانت غائبة عنا.
وَلَيسَ النَّبْتُ يَنْبُتُ فِي جِنَانِ
كَمِثْلِ النَّبْتُ يَنْبُتُ فِي الفَلَاةِ
أتذكر ذلك الموقف الذي لازال عالقًا في ذاكرتي، عندما صليت صلاة العيد في إحدى جوامع مكة المكرمة حرسها الله، وجلست أستمع لخطبة العيد، التي تحدث فيها الخطيب، وحث الناس على ملازمة الطاعة بعد رمضان، وعن الأحكام المتعلقه بالعيد، وعن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العيد، وقبل أن يختم ونغادر الجامع، فإذا به يحث المصلين بهذه الكلمات المشرقة التي حطمت حواجز الخجل، وهدمت جدران الوجل، ورسمت صورة من أورع صور الإخاء بين المصلين، قال فيها:
“عباد الله قبل أن تغادروا هذا الجامع تذكروا إخوةً لنا في الدين هم الآن معنا في هذا الجامع، تركوا أهليهم، وتغربوا عن أوطانهم، من أجل لقمة العيش؛ ولولا لقمة العيش لكانوا الآن بين أهليهم، فمدوا إليهم أيديكم، وصافحوهم، وهنؤهم بالعيد وشاركوهم أفراحكم”
وما أن انتهى الخطيب من كلامه حتى قام الجميع في مشهد من أروع مشاهد الإخاء والمحبة بين المسلمين الذين ارتقت أرواحهم، وتسامت نفوسهم، وخالطة البشاشة وجوههم، فتسارعت أياديهم بالسلام، وتعالت أصواتهم بعبارات التهاني والدعوات، وامتزجت أجسادهم بطيب العناق، لترسم أجمل اللحظات الجميلة، فلا ترى في قلوبهم إلا بياض الألفة، ونور الإيمان، وتجدّد المحبة، وإشاعة العفو والمُسامحة، والجميع في ميزان السعادةِ سواء.
فما ألطفه من موقف..!
وما أجمله من توجيه..!
كيف كشف المشاعر وأبرز دفئها بين المصلين.!؟
وهذا والله شأن الخطيب العارف بمقاصد الشريعة، والمطَّلع على أسرارها، كيف يغتنم مثل هذه المناسبات الإيمانية في تعميق مفهوم التلاحم بين المسلمين، وتوثيق الرابطة الإيمانية، وترسيخ الأخوة الدينية بينهم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…﴾ الآية [الحجرات: ١٠]، والأُخُوّة التي اختارها الإسلام أُخوّةُ مبادئ لا أُخوّةُ نسب، لأنها أقوى وأوثق من رابطة النسب، فهي التي جمعت بين صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي.
انتهت الخطبة وغادر الجميع الجامع، لكن بقلوب غير تلك القلوب، وحال غير ذلك الحال، وظل ذلك الموقف الرائع من ذلك الخطيب درسًا عالقًا في الذهن لايفارقني، كأني أراه ماثلًا أمامي رغم مرور السنين.
فجزاه الله عنا خير الجزاء.
وفي الختام:
هناك مواقف لا تنسى، إن لم تترك موقفًا جميل بين الناس فلا تترك عكسه، فمن زرع طيب الأثر حصد محبة الله ثُم محبة البشر.
سَأزرَعُ الحُبَّ فِي بَيدَاءَ قَاحِلةٍ
لرُبمَا جَادَ بالسُقْيَا الذي عَبَرَا
********
مُسَافِرٌ أَنْتَ والآثَارُ بَاقِيةٌ
فَاتركْ ورَاءكَ مَا تُحيي بهِ الأثرُ
********
جعلني الله وإياكم ممن يزرع الخير
ويجني ثماره في الدنيا والآخرة.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب