أكتب هذه الوقفات العلمية بعد مشاهدتي لمقطع قصير أرسله لي بعض الأحبة في غران لما يسمى بـ “مدينة غران اللوجستية”.
قبل الشروع في كتابة هذه الوقفات أقول مستعيناً بالله ، أنني أرغب تنبيه القارئ الكريم لأمرين مهمين :
الأمر الأول .. أن المقصد منها الوقوف مع الحق بالحجة و البراهين و لذلك أربأ بنفسي عن الخوض في النيات و الطعن في أعراض المسلمين.
أما الأمر الثاني .. فإن مقالي هذا سيسألني الله عنه يوم القيامة ، لذلك هو رأي يحتمل الصواب و ليس منزهاً عن الخطأ البشري و التقصير.
– الوقفة الأولى : و هي ليست علمية بقدر ما هي إدارية صرفة تحتاج من أحبتي في طرف هذا الوادي العزيز مناقشتها مع صانع القرار في الجهات العليا .. هذه الوقفة هي عن الأسس و الأطر التي تم بموجبها تحويل هذه الأرض الزراعية إلى أرض صناعية و مستودعات كما هو واضح من لب المخطط الذي شاهدته في ذلك المقطع – و إن كان المتحدث فيه يحاول جاهداً لصرف الأنظار إلى المنشآت الثانوية كالمساكن و المساجد و أماكن الترفيه.
لعله من المعلوم أن وزارة الشؤون البلدية و ما يعاضدها من وزارات أخرى مثل وزارة الزراعة قد أحكمت يدها على تحويل الأراضي الزراعية إلى سكنية و جعلت ذلك في أضيق الحدود، و بشروط كثيرة ، لعل منها – على سبيل المثال لا الحصر – أن يكون استخدام هذه الأرض حسب المخطط المعتمد للمدينة ، و أن يحيط بالموقع مخططات سكنية ، و أن يكون الموقع المعتمد داخل النطاق العمراني ، و أخيراً عدم وجود الأشجار فيه في آخر عشرين سنه .
بعد ذلك تنظر البلدية فيه و بعد مراجعة المختصين و الاستشاريين تعطي قرارها بالموافقة أو الرفض …
أعود فأقول إن هذا في تحويل الأرض الزراعية إلى سكنية ، فكيف بتحويلها إلى صناعية أو تجارية أو لوجستية – و هو لعمري – أشد وأصعب .
هذا السؤال هو المحك الرئيس قبل الدخول في تفاصيل جدوى هذا المشروع ، لذلك فنصيحتي لأهل الرأي في خليص عامة و في غران على وجه الخصوص أن يطعنوا في القرار الصادر هذا لأني لا أستبعد شبهة الفساد فيه .
– الوقفة الثانية : لعل مما أسهم في نجاح المشاريع المدنية أو الصناعية في كثير من الدول الغربية هو الأسس و الأطر الإدارية التي تنظم هذه المشاريع قبل دخولها حيز التنفيذ .
و لعل المملكة العربية السعودية بدأت منذ فترة و على يد الرئاسة العامة للأرصاد و حماية البيئة و جهود بعض المخلصين بوضع كراسات للشروط البيئية الواجب توافرها في أي مشروع قبل تنفيذه ، و جعلت هناك نظاماً يخص إدارة المناطق الساحلية بالتحديد يسمى (integrated coastal zone management) ، لحماية هذه المناطق و ضمان استمراريتها و خلوها من المشاكل .
إن من أبرز سمات هذا النظام وجود دراسات الاستشارة البيئية و تحديداً ما يسمى بـ (environmental impact assessment) ، الذي يهدف إلى دراسة تقييم الأثر البيئي لمثل هذه المشاريع في المستقبل … فأين هذه الدراسة و أين تطبيقها لهذه المدينة المزعومة؟!!
– الوقفة الثالثة : لا شك أن المتأمل في أقدار الله عز وجل و بديع صنعه و حسن تنظيمه لهذا الكون يرى أن الدورات المناخية الحسنة قادمة و ليس عندي شك في ذلك ، كما قال الشاعر :
حتماً ستمطرنا بشائر ربنا يوماً ** و إني لا أراه بعيدا
إن الخطوب إذا تعاظم كربها ** فرجت بنصر للعباد أكيدا
كل من هو في جيلي و من سبقهم يذكرون كيف كان هذا الوادي و كل وادي خليص مزارع و بساتين غناء .
إن الدلائل الإحصائية و النماذج العددية تشير إلى تغير المناخ بشكل سريع و مضطرد ، و لكن قبل ذلك .. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل في غزوة تبوك : (يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مليء جناناً) رواه مسلم..
بل قد قال عليه الصلاة و السلام قبلها : (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً و أنهاراً) رواه مسلم.
لذلك أقول لا ينبغي أن تستعجل الأمة قدرها و تحيل مساحة شاسعة أشجارها لا تزال قائمة حتى كتابة هذه السطور – و إن يبس بعضها – إلى مخطط يعود على واديهم بالضرر و الدمار في المستقبل بسبب بعض الرغبات في الاستثمار .
ختاماً .. لقد لفت نظري في هذا المقطع أن المتحدث ترك لب المخطط (core) ليركز على ما يرافق ذلك من منشآت ثانوية مساعده (auxiliary) لجذب الأنظار إلى هذا المشروع دون بيان حقيقته.
إن ديننا الحنيف يأمر الناس ببيان ما أصاب المطر من الطعام و إظهاره للناس لمنع التدليس ، فكيف بمشاريع تحيل الأرض الزراعية إلى صناعية أو تجارية ..
أنار الله بصيرتنا لكل خير و جنبنا كل شر و فتنه .
د. عبدالله محمد الصبحي
أستاذ مشارك بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة
و مستشار بهيئة المساحة العامة
مقالات سابقة للكاتب