من الذي يقوم مقامها ؟ ومن الذي يصبر صبرها ؟ ومن الذي يسدُّ ثغرها حال غيابها؟ إنها الأم !
تُرى أي موقع تحتله الأم في نفوس أبنائها !
وأي تقدير تحظى به في مخاطبتها ومعاملتها ، والاهتمام بشؤونها .
الأم ؛ في حضنها تربيت ، وعلى رعايتها ، وشفقتها ،وخوفها عليك ترعرعت ،
تحرم نفسها لذة الطعام ؛ لتطعم أنت ، تسهر ليلها لتنام أنت ، تفرح لنجاحك وتفوقك ، وتحزن لحزنك ، بل تمرض لمرضك ، إنها الأم : أي إنسانة هذه ؛ التي تبذل نفسها ، لأولادها ، على حساب صحتها ،ومطعمها ،ومشربها، مسيرة عُمر من السنين ؛ وهي تعطي وتبذل ، حتى بعد استقلال أبنائها وبناتها بتكوين أسرة جديدة ، وهي تتابع وتساعد وتشفق ،وتحمل وترعى أحفادها ، وتفرح لفرحهم وتحرن لحزنهم ، إنها الأم !
يا إلهي!
أين نحن !!
من هذه الغفلة ، وهذا النسيان ، والانشغال بالدنيا ، والعمل والارتباطات ، والزملاء ، والأصدقاء ، أين نحن !
من الإحسان ، لهذه الجوهرة المكنونة ، التي ليس لها بديل ، ولا عديل .
أين نحن !
من وصيّة ربنا بها ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ، حملته أمّه كرها ، ووضعته كرها ).
أمي ، سامحيني : كم ، أنا مقصر في حقك ،
أعطيك فضل وقتي ، أحاول أرضيك ، لكنني مستعجل ، أراك تقبلين مني الحد الأدني
من الخدمة والبر ، أحياناً ينفلت لساني بعبارة ( أمي عندي موعد ) لو تأجلين طلبك ، مشغول شوي ، سرعان ما تنطبق شفتاك ، وتخجلين من إحراجي ، وتقولين
لا عليك ياولدي ، لا تهتمين يا بنتي ؛
نؤجل إلى وقت فراغك .
يا إلهي ، كم أنا غافل ، كم أنا لاهي ، أهناك ارتباط أعظم ، من بر الأم ، وخدمتها ، أهناك شخص ؛ أعزُّ وأجلُّ ، ممن ، كان بطنها وعائي ، وثديها غذائي ، وحجرها منامي .
يا إلهي ! ماهذا الجحود ! وكفران النعمة ، أليس الله جل وعلا ، قرن برها وطاعتها بعد توحيده ،قال الله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وبالوالدين إحسانا ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما ، أو كلاهما ، فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما ، وقل لهما قولا كريما ) ، ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .
جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يارسول الله ، من أحق الناس بحسن الصحبة ، قال : ( أمك ثم أمك ، ثم أمك ، ثم أبوك ، ثم أدناك أدناك ) رواه البخاري ومسلم ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
استغفرالله ، ( ولا تقل لهما أف ) رحماك
ربي ، ما أهون هذه الكلمة في عقولنا ، ومشاعرنا ، كم تلفظنا ، أمام أمهاتنا ؛ بأعظم من ذلك ، كم تغيرت ، ملامحنا تضجراً من تصرفات أمهاتنا ، وطلباتها
( إلا مارحم ربي )
سامحيني يا أمي : ما عرفت قدرك ، حق المعرفة ، اعتمدت على طيبة قلبك ، وحلمك ، وعطفك ، فنسيت واجبي تجاهك ، بل نسيت برّك ، وربما وصل الأمر في بعض تصرفاتي تجاهك ؛ إلى الدخول في دائرة العقوق .
كم تجاوزتي بقلبك الكبير ، وسعة صدرك
عن هفواتي وتقصيري في حقك ٠
أمي أرجوك ، سامحيني ،
يا من كانت أمه ، أمها ، على قيد الحياة ، احمد الله ، وامسك غرزها ، تلذذ بطاعتها ، تمتع بموانستها والتحدث معها ، إملأ عينيك برؤيتها ، فسرعان ما تغيب عن ناظرك ،
واعلم ، مهما قدمت من بر ، وخدمة ؛ فلن توفيها حقها ،
رأى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – رجلاً يحمل امرأة عجوزاً على ظهره ويطوف بها البيت الحرام. فسأله: مَنْ هذه؟ قال له: إنها أمي، أتراني قد وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له ابن عمر: والله مهما فعلت بها فلن يعدل ذلك طلقة واحدة ، طلقتها فيك ، ساعة ولادتها.
احذر أن تكون أمك آخر اهتماماتك ، أو تعطيها فضل أوقاتك ، إذا زرتها ، أو كنت بجانبها ، لا تكن أمامها جسدا ، بلا روح ، ولا مشاعر ، لا يكن حديثك في عالم آخر ، وابتساماتك ، تسبح عبر الفضاء ، للزملاء أو الأصدقاء ، ( عبر جوالك ) لا تجعلها ترى الابتسامة منك ، لكنها غير موجهة لها ، ترى الأم ، نهجها الصمت ، والتغافل ، والنسيان لكل مواقف تراها من أبنائها
لا تعجبها ، لكن الفطن يلاحظ ذلك في مشاعرها ، ولغة جسدها .
كن ؛ يا رعاك الله : بجانب أمك ، فهي في أمس الحاجة لك ، رد لها بعض الجميل في سنوات مضت ؛ كنت في حاجة رعايتها ( طفولتك ) لقد قامت بالدور على أكمل وجه ، ويبقى الآن دورك ( وإما يبلغن عندك الكبر أحدهما ، أو كلاهما …..)
أشعر أمك ، أنك في حاجتها ، وأن دورها لم ولن ينقطع ، شجعها على أي دور تقوم ، به ، بل اشكرها ، وامدحها ، لا تسمع منك أي عبارة أو تصرف يشعرها بكِبَر سِنًها ، أو تقادم ثقافتها ، لا تناديها بكلمات
تشعرها بالخجل أو الضعف ( العجوز ، الكهلة ، …..)
نادها بأحبِّ الألفاظ : يا أماه ، يا أمي ، يازهرة فؤادي ، يا أغلى ما في الوجود , بهذا النداء ،وهذا الأسلوب ؛ ستسمع الدعوات لك ولأولادك ، أنت في أمس الحاجة لها .
أما من غابت أمه عن عينيه ،
فالبر موصول ، لها بالدعاء والاستغفار ، والإحسان إلى قريباتها وصديقاتها ، ومن هم نسب لها ، ابحث عن رفيقات أمك في دربها وصديقاتها اللاتي كنّ معها في حياتها ، واسهم بهدية ، أو أي إحسان لهنّ ، تدخل السرور عليهن ، ويتذكرن أمك وسيرتها ، فيدعين لها ،
وعليك إنفاذ وصيتها إن كان لها وصية ،
أذكر أمك بصدقة جارية ؛ مساهمة في وقف خيري ، أو في مسجد ، أو في حفر بئر ، أو كفالة يتيم ، أو أي سهم خيري .
سامحيني يا أمي :
تلك خاطرة ، سطرتها باختصار عن غفلتنا تجاه أمهاتنا ، وتقصيرنا في البر بهن ، لعلها تكون لنا ذكرى ، فتذكر البار ،فيزداد براً ، وتوقظ الغافل فيتدارك مافاته بالتوبة وطلب السماح ( سامحيني يا أمي )
ولنعلم ، جميعاً ، أننا قدوة لأبنائنا ، في هذا البر ، فطفلك يقلدك ، في كل أفعالك تجاه أمك ، ففي مرحلة الطفولة ، يسجل ويحتفظ بالمواقف ، إيجابية كانت أو سلبية ، ثم يترجم ذلك واقعاً حال نضوجه وشبابه ( وكما تدين تدان )
د.صلاح محمد الشيخ
مستشار أسري وتربوي
مقالات سابقة للكاتب