سامحني : يا أبي
تُرى من السبب في وجودك ؟ إلى من تُنسب عندما تُدعى ؟ ممن تعلًمت الرجولة ، والشجاعة ، والتحدث في المجالس ؟ إنه الأب !
أول فرحة ، وافتخار بك ، بشارته بوالدتك ، كم أخذ بيدك ! وسار مع الرجال وهو مسرور بك ، كم تحمّل المتاعب والمصاعب ؛ في تأمين لقمة العيش لك ، كم حرص على تربيتك وتعليمك وتأديبك ! لتكون رجلاً تتحمل المسؤولية ، وتشق حياتك المستقبلية ، في أعلى المستويات ، وأرقى الرّتب ، قلبه يحزن لمرضك ، وعينه تدمع لألمك ، لكنه ، أب ، يُخفي ما لا يبديه ، حتى لا تتأثر مشاعر الأسرة ، وتتحلى بالصبر حال المصائب والمحن ، إنّ حب الأب لأبنائه حبٌ فطري ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ….) إنه الأب !
كنت متعلقاً به ، حال طفولتك ، تفرح حينما يأخذك معه ، وتحزن إذا تركك ، تنظر له السند القوي ، الذي تأوي إليه حال خوفك وفزعك ، وطلب الحماية والمساعدة ، طيلة سنوات عمرك ، حتى صرت يافعاً رجلاً ، مستقلاً ، وأنت تتعلم ، وتكسب من خبراته وتجاربه ، هذا هو العمود الفقري الذي قامت عليه الأسرة التي نشأت فيها ،وترعرعت في أكفانها ، وأكلت من خيراتها ، إنه الأب !
رحماك ربي ! هذا الأب الحنون ، الذي تقرأ في ملامحه ، العطف والشفقة ، الخوف والحب ، قدًم الكثير من عمره ، من أجلك يحبُ أن تكون ، أفضل منه ، في مسيرة حياتك العلمية والعملية ، دائماً يحثك ، يوجهك، يغضب عليك ، حال تقصيرك
قد تنزعج أحياناً من أسلوبه ، لأنك لا تدرك ماذا يهدف ؟ وماذا يتمنى من ابنه مستقبلاً ، إنه الأب !
غاب عنك أنه أوسط أبواب الجنة ؛ كما أخبر رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم
فعن أبي الدرداء قال : سمعت : النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَوِ احْفَظْهُ “رواه الترمذي وصححه
نعم ؛ فطاعته وبره ، سبب لدخولك الجنة ، هذا هو الكنز الثمين ، والفوز العظيم
عندما ، يرضى عنك والدك ، ويدعو لك بالتوفيق والسداد ، هذا هو الفرح الكبير ،
حين يفارقك والدك ، وهو راض عنك ،
رحماك ربي : ما أكثر تقصيرنا في بره وطاعته ، إنه الأب .
طاعته واجبه ، وبره مطلب ، ومع هذا
يلاحظ من بعض الأبناء تقصيراً واضحاً في ذلك ، وصل إلى درجة كبيرة من العقوق ، حيث يتأوًل البعض ، أن هذا الأب ؛ لا يستحق البر والصلة ، بسبب ، تورطه ؛ في بعض الفواحش والمنكرات ، أو ظالماً لهم بمنعهم العطاء ، أو عدم العدل بينهم ، أو فارق أمهم بالطلاق ، أو هاجراً لهم ، وغير ذلك ، كل هذا من تلبيس الشيطان ، وضعف الإيمان ، والجهل وقلة تعظيم شعائر الله تعالى ، لأن حق الأب في البر والصلة ،والإحسان ؛ لايسقط حتى ولو كان كافراً مشركاً مرتداً قال الله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
فحفظ الله حق الأب الكافر الذي يدعو ولده للكفر وأمر ببره فكيف بما دونه من الفسق والظلم ، لذا يجب على الولد في هذه الحالة أن يبر أباه ويطيعه في المعروف وينصحه ويوجهه برفق ويصبر على فجوره ولا يشاركه في المنكر ولا يطيعه في المعصية ويستر عليه .
والبعض من الأبناء يهتم اهتماماً بالغاً في بره بأمّه ، وهذا واجب ومطلب ، لكن في المقابل يقصر تقصيراً واضحاً في بره
بأبيه ، فلا يهتم ببره ، ولا الإحسان إليه ، أو يضيع كثيراً من حقوقه الواجبة ، وهذا خلل كبير ، لابد من استدراكه ،
وهنا قضية هامة ، لا بدّ من الانتباه لها : ففي حال حدوث الطلاق بين الأب والأم ، أو عند زعل الأم من الأب ؛ لأي سبب كان ، تجد بعض الأبناء يسيؤون الظن بأبيهم ، ويحملونه المسؤولية كاملة ، في هذا الفراق ، وهذه المشاكل ، دون وعي ولا أنصاف ، ولا تحاكم لشرع الله ، فيقطعون بره ، ويعاملونه بالإساءة ، والهجران ، وربما القطيعة التامة ، واتهامه بالظلم لهم ، وينسون فضله وإحسانه لهم طيلة حياتهم ،
لذا يجب على الابن في هذه الأحوال ، أن يكون متعقلاً ، يفكر بميزان الشرع ، ولا يغلب العاطفة ، وينظر للعواقب ،
فتتضح له حقيقة ، أن ما حصل من طلاق وفراق كان أمراً مقدرا من الله لحكمة قد تخفى عليه ،
عند ذلك يعلم ، أن قطيعة الأب ، وهجره ، لا يرد شيئاً قد فات ، وحينئذ يراجع نفسه ، ويتعايش مع الوضع الجديد ، ويَصِل أباه ، ويحسن إليه ليعيشوا جميعاً في راحة بال واطمئنان.
أما من فقد أباه ، فبره موصول :
بالدعاء والاستغفار له ، والصدقة الجارية عنه ، وقضاء الديون التي عليه ، إن كان عليه ديون ، فلا يرضى الولد الصالح ، أن يكون أبوه محبوساً بالديون في قبره ، وهو يتقلب في الغنى والنعم ،
وصلة أصدقاء أبيه ، بعد موته من البر
فمن حديث ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبّر البر صلة الولد أهل ودّ أبيه). رواه مسلم.
وخلاصة القول يجب على الابن أن يبر أباه في جميع الأحوال ، ولا يقطع الصلة به مهما كانت الظروف ، وليراقب الله تعالى ويكون صادقا مع نفسه ولا يكن همه إرضاء أحد والديه على حساب الآخر ، فإنه لن يغني عنه شيئا يوم القيامة ولن يعذره الله في تقصيره في حق أحد منهما ، فمن حديث جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يدخل الجنة قاطع). قال سفيان: يعني قاطع رحم. متفق عليه،
والأب من أقرب وأعظم ذوي الرحم .
فليتأمل العاقل في سيرته مع أبيه ، وبره وإحسانه به ، وليعلم أن الدنيا ؛ أيام وليالي سرعان ما تنقضي ، وأن ظلم الأب بعقوقه ، وهجره ، وقطع صلته وبره ، مهما بلغ ، فعقوبته وخيمة ، وقد تعجل العقوبة للظالم في الدنيا قبل الآخرة ، وكم من عاق لأبيه في حياته ، ومات أبوه ، وهو عليه غضبان ، فندم أشد الندم ، وتحسر ودمعت عيناه عند قبره ، لكن هيهات ، هيهات ، ما ينفع الندم ، وربما دعا عليه أبوه حال حياته ،فأفسد عليه دنياه وآخرته.
اللهم اجعلنا من البارين بآبائنا ، وارزقنا بر أبنائنا .
د.صلاح محمد الشيخ
مستشار أسري وتربوي
مقالات سابقة للكاتب