وفي حوالي الساعة التاسعة والنصف التقينا بالزملاء جميعاً في منتزه (نيلوفر بارك) لتناول طعام الإفطار ثم التوجه للجولة السياحية التي بدأناها بـ(الديرة) – البلدة القديمة – التي أدخلها لأول مرة بعد أن هيأتها الهيئة الملكية لمحافظة العلا كمزار سياحي يؤمه الزائرون من السياح والأهالي وضيوف المحافظة.
كان الوقت مبكراً فالعادة فتح أبواب الزيارة منذ الساعة الرابعة عصراً حتى الساعات المتأخرة من الليل ولكنه استثناءً سمح لنا بالجولة السياحية قبيل الظهر وأثناء النهار فبدأنا جولتنا مشياً على الأقدام عبر (الجادة) وهي ممر سياحي مستحدث ويسمى طريق البخور، يسير فيه الزوار والسائحون بدءاً من شمال (الديرة) إلى جنوبها، لنرى مصفوفات الدكاكين والمقاهي وأماكن الراحة ودورات المياه على جانبي (الجادة) ثم دخلنا إلى عمق (الديرة) حيث الأزقة المتعرجة والنوافذ المرتفعة المطلة على الممرات الخفية والمنازل المترابطة ببعضها البعض مما يوفر لها تحصيناً وأمناً أميناً، ويشير دليلنا الأستاذ إبراهيم القاضي إلى بعض تلك المنازل والدور وملكيتها السابقة لأهله وأقاربه من أبناء العلا الميامين، ثم وصلنا إلى المسجد الجامع وهو (جامع العظم) الذي بني في المكان الذي اختطه صلى الله عليه وسلم بالعظام في مروره بالعلا إلى غزوة تبوك وسمي مسجد (العظم) أو (العظام).
ثم وصلنا إلى موقع (الطنطورة) والباحة التي أمامها وعرفنا من دليلنا أنها هي (الساعة الشمسية) أو (المزولة) التي كانت تنظم أمور الأهالي لسقي المزارع وبيان دخول الشتاء ومواسم الزرع والحصاد، وهي عبارة عن مئذنة هرمية الشكل مرتفعة عن سور المبنى المقامة عليه.
وأثناء مرورنا بهذه المزارات والأزقة الضيقة شاهدت إحدى البعثات الأثرية/ الفرنسية التنقيبية وهي أمام حفرة مربعة الشكل يمارسون دورهم التنقيبي/ الأثري وسألتهم عن مهمتهم فتحدث معي أحدهم باللغة العربية وقال هذه إحدى المواقع التنقيبية في البلدة القديمة!! وسألته عن المعثورات الشاهدية فقال إن هذه أسرار علمية لا يمكن البوح بها الآن ولكنها موجودات أثرية لها قيمتها العلمية والمعرفية والتاريخية عندما نستكمل دراستها!!
وانتهت جولتنا السياحية في هذه البلدة القديمة والأثرية والتي بنيت منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وقد عاش فيها الأهالي حتى ثمانينيات القرن الماضي وانتقلوا بعدها منذ العام 1396هـ إلى المخططات الحديثة، واستلمتها هيئة السياحة والآثار وبدأت في تطويرها والمحافظة على حالتها العمرانيَّة وتأهيلها لتكون مزاراً سياحياً وبقيت تحت إشرافها حتى تسلمتها الهيئة الملكية لمحافظة العلا وبدأت في تطويرها الحديث منذ العام 2019م عندما أطلقت رؤية العلا برعاية ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان وبعدها بعامين في 2021م أطلقت مشاريع (رحلة عبر الزمن) لتطوير البلدة القديمة وتقديمها في نسختها الآثارية المتجددة واستجابة لمتطلبات الرؤية 2030م.
وقبل صلاة الظهر غادرنا (الديرة) متوجهين إلى (قاعة ومسرح المرايا) وهي تحفة معمارية فريدة في موقعها وفي إنشائها، وفي مستهدفاتها المستقبلية، حيث تقع في منحدر صحراوي بوادي عشار شمال غرب مدينة العلا وبين جبال عديدة ذات تشكيلات صخرية فريدة تنعكس على جدر هذه القاعة التي توجت بمرايا عاكسة من جهاتها الأربع وسجلت في موسوعة جينيس للأرقام القياسية على أنها أكبر مبنى مكسو بالمرايا في العالم.
وقد أُنْشِئَتْ عام 2018م حيث أقيمت فيها أولى الحفلات الموسيقية، ثم في العام 2021م استضافت هذه القاعة/ المسرح قمة مجلس التعاون الخليجي في دورته (41) التي تمت فيها المصالحة مع الشقيقة قطر، وبهذا تسجل حضورها في المشهدين السياحي / الترفيهي والتاريخي الحضاري!!
وقد سمح لنا – بشكل خاص – بدخولها والتجول في فضاءاتها المعمارية حيث المسرح، والبهو، والمطاعم والبوفيهات وسعدنا كل السعادة بالتصوير خارجها وفي محيطها الأثري الرائع!!
ومن ثم انتقلنا إلى منتجع صحراوي قريب من هذه القاعة وهو منتجع (هابيتاس) الذي استقبلنا في استراحة قصيرة تناولنا فيها القهوة والضيافة العربية ثم غادرناه إلى زيارة لمزرعة الزميل الأستاذ محمد بن يوسف النزاوي الجهني المعروفة باسم مزرعة (الشيهانة) حيث أدينا صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً وتناولنا القهوة والتمرة بين ضيافة أخوية وذكريات تعليمية ومجاملات ترحيبية.. ثم غادرناه إلى مجلس عشيرة القروق التي أولمت لنا غداءً فاخراً بمناسبة حفل تكريم الأستاذ إبراهيم القاضي وبعد الغداء تجاذبنا أطراف الحديث وتعاطينا الشعر والقصائد حتى حان الوداع وغادرنا شاكرين مضيفينا ومودعين زملائنا على أمل اللقاء القريب.
# # #
خواتيم ونهايات:
(1) وبعد وجبة الغداء الفاخرة في ضيافة (آل القروق) أكرمهم الله، عدنا إلى النزل استعداداً للمغادرة كلٌّ إلى دياره، وكان أول المغادرين رفقاءنا أهل ينبع سعادة الأستاذ محمد فرج بخيت والدكتور سعد الرفاعي والشيخ أحمد النزَّاوي الذين ودعناهم مع صلاة العصر تقريباً وكان طريقهم براً بالسيارة داعين لهم بالسَّفر السعيد والطريق الآمن والرحلة الممتعة والوصول سالمين غانمين!!
وقبل المغرب كان مضيفنا الأستاذ إبراهيم القاضي ينتظرنا أمام النزل لمرافقتنا نحو المطار وتوديعنا فيه نحن القادمون من جدة والقنفذة وعسير، ويحملنا من الهدايا التمرية ما نشكره عليها وظل معنا في المطار مسانداً ومرشداً وداعماً بحكم معرفته لكثير من موظفي المطار الذين كانوا تلامذة لديه، ومعارف لذويه ويكنون له الاحترام الكبير.
(2) وهانحن في قاعة المغادرة ويبقى حوالي ساعة على الإقلاع وأخذنا جولة تعريفية فهناك ركن سياحي هام يعرِّف بالعلا وآثارها وتاريخها، ويقدم منسوبوه ملامح دعائية وبرامج سياحية، ومعلومات تعريفية وهناك شاب سعودي اسمه محمد المالكي يعزف على آلة الأورج بعض الألحان الشجيَّة والمقطوعات الموسيقية، وهو شاب عشريني من ديار بني مالك قرب الطائف يعمل لدى هيئة السياحة بالعلا في هذا الجانب الترحيبي بضيوف العلا من خلال هذا المنفذ الجوي/ المطار.
وفي جلستنا بالمطار سعدنا بهذه الساعة الانتظارية وكأنها سويعة تمر سريعاً، فهذا مضيفنا يذكرنا بشاعر أردني يصف جبال العلا وكأنها أهرامات في بيت شعر جميل يقول فيه:
هرمان في مصر استفاضا شهرة
فما شأن دار كلها أهرام
وبذائقتي الشعرية أدركت الخلل العروضي في الشطر الثاني من البيت فحاولت إصلاحه ببيت شعر جديد قلت فيه:
أهرام مصر ثلاثة مشهورة
أما (العلا)… فجبالها (أهرام)
وتطرق الحديث إلى التحية الترحيبية في كل قبيلة أو منطقة في بلادنا السعودية.
ففي الطائف: مرحباً ترحيبة المطر.
وفي الباحة: مرحباً هيل.. عد السيل,
وفي القنفذة: مرحباً ألوف شب وخلوف.
وفي عسير: مرحباً ألف.
فأشار مضيفنا (أبو فيصل) أن التحية المستخدمة في العلا: ياهلا هلا.. والسكوت ترحيب!!
وهكذا قضينا ساعة الانتظار بين أحاديث ونقاش وحوار حتى أعلنت القاعة عن موعد المغادرة فودعنا زميلنا واتجهنا لطائرتنا شاكرين له هذه الاستضافة التي بدأت من المطار وانتهت في المطار!!
(3) لقد سعدت – كل السعادة – بالتعرف على أساتذة كرام، هم المكاسب في هذه الزيارة (العلاوية) ستظل ذاكرتي حفية بهم:
الدكتور محمد الزاحمي مدير تعليم القنفذة.
الأستاذ هاشم الحياني مدير تعليم محايل عسير سابقاً.
الأستاذ محمد فرج بخيت مدير تعليم ينبع سابقاً.
الأستاذ إبراهيم البدير صاحب الحديث الماتع والروح اللطيفة.
الشاعر العميد أنس المطلق الذي يتدفق شعراً وإبداعاً ورحابة صدر وفكاهة حاضرة.
إضافة إلى رفاق السَّفر الدائمين الشيخ أحمد النزاوي والدكتور سعد الرفاعي الذي همست في أذنه وهو يعقب على فقرات الحفل بروحه الناقدة.. قائلاً له: “من جاء ناقداً خرج فاقداً” فاستقبلها بصدر رحب ورضا نفس أخوية أشكره عليها. ومع الجميع كان مضيفنا إبراهيم القاضي، ودكتور المستقبل القريب: سلطان القنيدي.
ولكل هؤلاء.. ولمن لم أذكرهم اسماً اسماً أدعو لهم بالتوفيق والسعادة وأن نجتمع على خير.
ولعلي أختم هذه الذكريات الرحلية بتحية شعرية (من قصيدتي في حفل التكريم) إلى أخي إبراهيم وإلى أهالي العلا الكرام:
“يا أهل العلا.. جئنا نهني
(أبا فيصل).. عليه السعد بادي
وأنتم أهل تاريخ وفضلٍ
وأنتم في (العلا) طلق الزناد
إليكم هذه الأشعار تُهْدَى
ورب الكون للإنسان هادي
إليكم يا كرام القوم حُبِّي
من الحاضر إلى يوم المعاد
وأنتم يا ذوي التعليم شكراً
على هذا الوفاء (ال) غير عادي
و(ياموسى) حصدت اليوم نجحاً
بتكريم القيادي ذا الأيادي”
والحمد لله رب العالمين.
مقالات سابقة للكاتب