شَهْرُ رَمَضَانَ .. مَحَطَةٌ للذِكْرَيَاتِ

ما أجمل الذكريات التي تجول في الخاطر عند قدوم شهر رمضان المبارك والذي يطل علينا ضيفاً كل عام , وسرعان ما يرحل ؛ مخلداً ورائه من الأحداث ما تكتنفه النفس ويبقى في الذهن ليصبح محطة يقف عندها كل مسلم ومسلمة ؛ ومن هذه الذكريات والأحداث العالقة في الذهن عن هذا الشهر الكريم ما يلي :

أولاً : نزول القرآن الكريم : قال تعالى ( شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ).
فما أجملها من ذكرى حينما نتذكر نزول الوحي بكلام الله عز وجل القائل ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ).

فهو محفوظ بأمر الله تعالى وهنا تقرير لاعتقاد أهل السنة والجماعة وهو : ” أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود”.
وبهذا الوحي هدى الله البشرية للإسلام , و به تستقيم حياتنا , قال صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ) .
فالقرآن الكريم هو حبل الله المتين :

فالزم يديك بحبل الله معتصماً
فإنه الركن إن خانتك أركانُ

ثانياً : الانتصارات الخالدة : فنتذكر في هذا الشهر الكريم غزوة ” بدر الكبرى ” وهي أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة والتي قد انتصر فيها المسلمين على جحافل المشركين وذلك في السابع عشر من شهر رمضان المبارك يقول حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه شاعر الإسلام :

وبيوم بدر إذ يصد وجوههم
جبريل تحت لوائنا ومحمدُ

ونتذكر كذلك غزوة ” فتح مكة ” والتي كانت لعشر خلون من الشهر الفضيل , قال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في كتابه ” زاد المعاد ” ( 2 / 160) : ( هو الفتح الأعظم الذي عز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين , واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين , من أيدي الكفار والمشركين , وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء , وضربت أطناب عِزَِِّه على مناكب الجوزاء , ودخل الناس به في دين الله أفواجاً , وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ).

ثالثاً : فقيد البيت والمقام : إنه صاحب الصوت الخاشع , والدمعة العابرة ، وصديق الوالد ، فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الخليفي – رحمه الله – إمام وخطيب المسجد الحرام , والمتوفى عام 1414هـ , فطالما صلى بنا المغرب , ودعى بالمسلمين في صلاة الترواح فبكى وأبكى , وإن من وصاياه – رحمه الله – نصيحة للشباب يقول فيها : ( نصيحتي للشباب الأعزاء أن يتقوا الله سراً وعلانية , وأن يتمسكوا بدينهم , و أن يفارقوا صحبة الأشرار , ويلزموا صحبة الأخيار , لأن مودة الأخيار سريع اتصالها , بطيء انقطاعها , و مودة الأشرار سريع انقطاعها وبطيء اتصالها , ومن صادق الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم , فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب لئلا يكون مريباً , وأركز في دعائي وخطبي على الشباب المسلم لأني أرى أن الشباب هم الأمل للمجتمع الإسلامي , فإذا صلح الشباب صلح المجتمع , ومن هذا المنطلق فإني أدعو لهم دائماً في الحرم وغيره بالتوفيق والهداية وأن يكونوا ملتزمين بآداب الإسلام ) .
فرحم الله الشيخ الخليفي وأسكنه فسيح جناته ولسان الحال يقول له :
سـمـاء مـكـة فـي أرجـائها قطـع
من السحائب قد غطت نواحيها

هذا هو الشيخ عبد الله قد صرمت
حـبال أيـامـه والـمـوت طاويها

هـذا الخليفي لـه منا الـدعاء بها *
لـعل طـوبى له زانـت مـبانـيهـا

رابعاً : على مائدة الإفطار : إنه البرنامج التلفزيوني الذي يعرض في ليالي هذا الشهر الكريم لفضيلة الشيخ الأديب علي الطنطاوي – رحمه الله – والمتوفى عام 1420هـ , والذي امتاز بطرحه الشيق والأسلوب الراقي لما يهم المسلم بعد افطاره , وقد استمر قرابة ربع قرن فنال القبول والاستحسان لدى الكثير من المتابعين , كما ناله برنامجه الاسبوعي الآخر ” نور وهداية ” والذي كان يستقطب المشاهدين بعد صلاه الجمعة لما يحتويه من أفكار وفتاوى ذات اهتمام كبير بحل الكثير من المشاكل الاجتماعية ؛ ومن أقواله المأثورة : (بعد تجارب ثماني وسبعين سنة كاملة في هذه الحياة , رأيت فيها خيرها وشرها وذقت من حلوها ومرها .. أقول لكم : من أغتر بهذه الدنيا وأطمأن اليها فهو أحمق) .

وقد حاز – رحمه الله – على جائزة الملك فيصل إزاء جهوده العلمية والدعوية :
مــضى علي أديـب الفـقـه شــيعـه
حـب عظيم وآلام أداريـــهـا

وشـيعـته نـفـوس طــالمـا شــربـت
من نبع حكمته ما كان يُرويها

مضى الأديب العصامي الذي احتفلت
بــه البلاغة وازدانت روابيها

خامساً: دروس العشر الأواخر: لقد إعتاد شيخنا الزاهد فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين المتوفى عام 1421هـ -رحمه الله- على إقامة دروسه العلمية كل عام في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك بالمسجد الحرام , بعد صلاة الفجر إلى الإشراق , ومن بعد صلاة التراويح إلى القيام من كل يوم , يشرح فيها آيات من الذكر الحكيم ويسرد فيها جملة من الأحكام الفقهية والمسائل الأصولية والعقدية والحديثية , وقد ارتبطت شخصياً بحضور حلقته العلمية منذ عام 1408 هـ فاستفدت من علمه الغزير الذي استفاد منه الجميع المقيم والزائر والمعتمر , وكان شيخنا قمة في التواضع والبساطة ونموذجا للعالم الرباني الذي يربي طلابه بصغار العلم قبل كباره , وكانت له غرفة بالحرم المكي يجلس فيها عصر كل يوم من العشر الأواخر يفيد الطلاب ويجيب على أسئلة المستفتين عبر الهاتف , ومن مأثور قوله رحمه الله تعالى :
( ينبغي للإنسان أن يفعل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة , ومنها : دعاء الله وهو من أكبر الأسباب .. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن الرجل يبلغ أشده أنه يقوله : ” وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين” ولا شك أن صلاح الذرية أمر مطلوب ؛ لأن الذرية الصالحة تنفعك في الحياة وبعد الممات) .

وقد كانت جنازته من أكبر الجنائز بمكة حضوراً – فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته – :
بالله يامكة الغراء ماذا جرى
يوم الـوداع أذابت حولــك الـمقــل

وساحة الدرس بحر في خوافقنا
يحدو بها الشوق لا يحدو بها الأمل

حب العثيمين بحر في خوافقنا
مهما انطلقت إلى مرساه لا تصــــــل

وفي هذا الشهر الكريم( رمضان ) نستلهم الذكريات , ونتدارس القرآن , وندعو الله عز وجل أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين الصيام والقيام , وأن يجعلنا من عتقائه من النار , وأن ينصر إخواننا المسلمين في كل مكان.

‏اللهمّ بلغنا رمضان بروح أنقى ، وقلب أتقى، وعمل أرقى.. اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين ونحن في أتم الصحة وراحة البال وأجعلهُ خاتمة لخطايانا وأعنّا على ذكرك وحُسن عبادتك.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحوّل عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.

خالد بن محمد الأنصاري

مقالات سابقة للكاتب

4 تعليق على “شَهْرُ رَمَضَانَ .. مَحَطَةٌ للذِكْرَيَاتِ

أبو أحمد

جزاكم الله خيرا شيخي الفاضل على هذه الخواطر الجميلة والتي استفدت منها كثيرا ،،، ففي كل مناسبة لكم مشاركة وتذكير قلكم مني الشكر والتقدير ،،، متعكم الله بالصحة والعافية ،،،، وبارك لكم فيما بقي من شعبان وبلغكم رمضان وأنتم بصحة وعافية ووفقكم للصيام والقيام وسائر الطاعات ،،، وتقبل منكم صالح الأعمال.

غير معروف

مقال جميل جدا بارك الله فيك وفي قلمك جزاك الله خير في ميزان حسناتك
اللهم بلغنا رمضان لافاقدين ولا مفقودين

غير معروف

جزاك الله الجنة على سردك لهذه الذكريات بارك الله فيك

هاجر

ذكريات لا تموت ولا ترحل نقشتها الأيام ووثقتها السنوات في فؤادنا ، ذكرنا بها استاذنا الفاضل : ما أجمل رمضان وروحانياته.. وما أروع لياليه وذكرياته..
كثيرون ينسبون التغيير إلى الزمن والوقت، لكن رمضان هو رمضان بخيراته وروحانيته، هو الثابت، والمتغير هم البشر، وكأن الشاعر عناهم بقوله:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

ذكريات رمضان والطفولة لكل منا ذكرياته .أحلي ما في رمضان أنه يذكرنا بكل ما هو جميل، وأجمل ما فيه لمة الأسرة كلها علي مائدة واحدة ومدفع الإفطار في بيتنا القديم رحم الله والدي عميد الاسرة وصاحب الفضل الأول بعد الله في لم الشمل وصانع الضحكات التي تتعالي لجميع افراد العائلة الكريمة مع تنافس الجميع الاستعداد لاستقبال ضيف يزورنا مرة في كل عام لعمل خطة ناجحة لحسن الاستقبال تشمل الاستعداد الروحي والجسدي والتميز والتسارع علي عمل الخير أياً كان، وتعليق الزينة والفوانيس وشراء المستلزمات المساندة لاستقبال الضيف الكريم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *