عندما كنت في طريقي لتناول السحور من مطعم أعتاد المرور عليه يومياً ويقع قريباً من الفندق الذي أقطن فيه في المدينة المنورة ، وخلال سيري كنت لا أنكف أشاهد الباعة من الرجال والنساء يعرضون بضاعتهم المتنوعة من أساور ومسابح وملابس وغيرها من المعروضات على الأرض بكل بساطة وعفوية تأخذ في مجملها سمة العشوائية الرمضانية الجميلة وتعج الطرقات والممرات بهم حيث يكتظ المكان بالزائرين من رواد الفنادق والمطاعم والمحلات التجارية القريبة من نزلهم، وبينما كنت استمتع بمشاهدة الباعة والزائرين لفت إنتباهي تلك المرأة التي يتجاوز عمرها الأربعين عاماً تقريبا وتقعد على كرسي متحرك وأمامها طاولة تعرض عليها عدد من الساعات المتنوعة ولا يوجد أحد حولها!! ،ألقيت نظرة خاطفة على تلك الساعات اللتي تعرضها وتجاوزتها في طريقي نحو المطعم ولكن تجليات مشهد تلك المرأة المقعدة سبرت أعماق روحي وفكري ورق لحالها قلبي وخطر لي أن أعود إليها و أمد لها يد العون ولكنني خفت أن أكسر شيئاً عزيزاً في قلبها يصعب بعد ذلك جبره ومعافاته وخطر لي خاطرتان أولاهما والتي لا أرجحها أنها تحاول إستعطاف المارة ليشاهدوا حالها فيرق قلبهم لحالها فيبتاعوا منها أو يتفهموا الرسالة الضمنية الخفية ويقدموا لها الصدقات والمساعدات إبتغاء الثواب والأجر في هذا الشهر الفضيل الذي يتسابق فيه الجميع نحو الخير ، والخاطرة الأخرى والتي أرجحها كثيراً هي شعور الإجلال والتقدير لذلك الصمود الذي يسكن روح تلك المرأة المقعدة، حيث لم تستسلم للظروف الصعبة التي ألمت بها فتقدمت بكل شجاعة لتنافس الباعة وتبحث عن قوتها وقوت أسرتها وتعف نفسها عن تكفف الناس وذل ومعاناة وألم الحاجة والفقر متغلبة على كل الظروف، حينها تذكرت عبارة قالها لي أحد أصدقائي التونسيين يوما ما وهي “الرحمة العقيمة” واصفاً نظرة المجتمع العربي للمعاق حيث كان يقول أن المعاقين وذوي الإحتياجات الخاصة لاينتظرون العيون لترمقهم وتراقبهم ولايريدون شفقة الآخرين والرحمة العقيمة التي لاتقدم لهم شيئاً بل يريدون حقوقهم وتهيئة البنية التحتية لهم حتى يستطيعون أن يمارسوا حياتهم الخاصة بكل يسر وسهولة ويأخذوا أدوارهم في بناء ونهضة أمتهم وتحقيق أحلامهم الخاصة. تلك المرأة المقعدة ماهي إلا أنموذج نشاهده في كثير من الأحيان وفي صور مختلفة في مجتمعنا عنوانه الكفاح والعمل وعدم اليأس.
إنهم أناس يستحقون الإحترام والتقدير ولا ينتظرون أو يتسولون شفقة من أي أحد. يجب أن يتتلمذ على أيديهم الكثير من شبابنا اليوم اللذين علقوا شماعة البطالة حجة لهم يتسولون من خلالها شفقة أسرهم والمجتمع من حولهم. ووقف الشاب منهم بلا حراك ساكناً عاجزاً مشلولاً على الرغم من أنه في قمة عنفوانه وأوج الصحة التي لاتقدر بثمن وأودع الله بداخله عقلاً مبدعاً لا حدود لقدراته الكامنة ولكنه وللأسف تجمد ومات حياً ولم يلفظ سوى جملة واحدة تعبر عن حالة البائس الفقير وهي الأسطوانة المعروفة ” مالقيت وظيفة”.
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب