البيئة المحيطة تؤثر على سلوك الإنسان وربما تلعب دوراً مصيرياً في حياته..
إن التفاصيل الصغيرة التي تأملتها في المسجد النبوي في شهر رمضان لهذا العام جسدت لدي هذا المعنى تماما.. هي تفاصيل صغيرة ولكنها تحمل دروساً وقيماً عظيمة لاتنسى .
فذاك طفل صغير يزاحم الكبار في صلاة القيام يقف معهم طوال الوقت دون كلل أو ملل، يا لها من بداية جميلة ربما لم يحظ بها كثيرون ممن شارفوا على خريف العمر ووداع هذا الوجود، وذاك طفل آخر ممسكاً بالقرآن يقرأه ويتلو آياته وآخر يضع طيباً على أيدي الزائرين بكل سعادة وفرح وفي الجهة الأخرى طفل آخر يحمل كأس الماء ليوصلها لأباه الذي يمثل دور القدوة الرائعة..
وفي الممرات والطرقات نحو المسجد تجد الشيخ الكبير يتهادى نحو المسجد لأداء الصلاة التي غفل عنها الكثير من شبابنا اليوم وهم في أوج الصحة والعطاء، وذاك على عربته وآخر يمسك إبنه بيدي والده المرتعشة حتى لايسقط على الأرض .. نعم إن الروح الإيمانية التي في حنايا قلوب هؤلاء الشيوخ تحمل بكل قوة تلك الأجساد الضعيفة الهزيلة التي أدت دورها وتشارف على الإستسلام ورفع الرايات البيضاء ،وداخل المسجد وخارجه الجميع يتسابق نحو خدمة الزائرين بكل ما تيسر من جهد وعمل..
سفر رمضانية للإفطار والسحور يقدمها أهل المدينة الكرماء بكل حب وسعادة ، وليس عليك سوى أن تختار أي سفرة تحب أن تحل ضيفاً عزيزاً على أصحابها.
الرجال والنساء صغاراً وكباراً يتوافدون إلى المسجد النبوي في كل الأوقات، ياله من سباق جميل الكل فيه رابح..
وفي الصباح كعادتي أجلس في ساحة المسجد أنتظر شروق الشمس وأتأمل هذا المشهد الإيماني المهيب والشوق في قلبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، ومسجده حاضراً أمامي وروحه وأخلاقه تطوف من حولي وسيرته وتضحيته في الدعوة وأخلاقه العظيمة تلهمني بقوة وتشفي روحي العليلة ..
أشعر أن طيفه يحدثني ويهمس إلى وجداني. ذكريات الطفولة وحياتي وكل ما فعلته يخضع لمحاسبة وميزان النبوة. عندما أتردد أو أحتار في أمر ما أشعر أن روحه وهديه يدلاني للصواب..
تأكدت أننا لو نظرنا إلى كل أمور حياتنا بهذا المنظور لما عشنا الكثير من الصراعات ولما وقعنا في شرك الشيطان ومكره وفخه اللعين.
كم أعتب على نفسي قائلاً لقد تأخرت عن زيارة مسجد المعلم والحبيب طويلاً.
الكل يأتي من شتى أقطار الأرض متجشماً عناء السفر ومتكبداً تكاليف باهظة الثمن ولكنها تهون في سبيل الحب والنور والهدى الذي لايقدر بثمن.
ونحن على قصر المسافات إلا أننا مقلون في الوصل والحب يال هذا الجفاء، لقد أيقنت أن الكثير من الدروس والمواعظ التي سمعتها في حياتي لا تعادل لحظة سلام وحب وصفاء ومحاسبة للنفس بجوار الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ولقد حضرت لدي الكثير من الأجوبة عن التساؤلات التي كانت تحيرني لماذا نحن قساة ويسكننا الجفاء ؟ولا تولد أرواحنا في الغالب سوى الصراع والألم؟! وكان الجواب وبكل بساطة لأننا لم نتربى في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نبادل الحب بالحب والعطاء بالعطاء ولم تخطوا أقدامنا خطوات نحو مسجده ولم تنهل أرواحنا من نهر حبه وخلقه الجاري.
كم أنتم محظوظون يا أهل المدينة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشرية معلم الإنسانية الأعظم. .
هذه رسالة ودعوة محب لكل عشاق الصفاء والسلام والحب بأن يشدوا الرحال إلى طيبة الطيبة ويدفعوا الأرواح إلى الإغتسال من درن الحياة وغثائها ويفتحوا القلوب للمشاهد والدروس الإيمانية والجمال التي لايمكن وصفها بالكتابة أو الكلام حتى تعود الروح إلى فطرتها السليمة وتعمل من جديد لتحقيق غايتها وهدفها التي خلقت من أجله.
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب