لا يخفى على كل مسلم ما للعلم من فضل وما للعلماء من منزلة ، وإنَّ هذه المنزلة من أسمى المنازل وأعلاها ، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
وقال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
قال الإمام ابن جماعة – رحمه الله تعالى – معلقاً على هذه الآية في كتابه “تذكرة السامع والمتكلم” (ص٤١) : ( بدأ سبحانه بنفسه وثنَّى بملائكته وثلَّث بأهل العلم ، وكفاهم ذلك شرفاً وفضلاً وجلالةً ونبلاً) .
ولقد شرف الله تعالى أهل العلم ونوه بهم وعظم شأنهم ، فيجب علينا أن نحذر من الوقوع فيهم ، ومن غيبتهم بغير حق ؛ فلا يجوز التنقص منهم والتقليل من شأنهم وطالب العلم يترفع عن الوقوع في العلماء لأن “لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة”.
قـال الإمام الذهبـي رحـمه الله في “تاريخ الإسلام” (٢٥٦/١٣):(سنـة الله فـي كـل مـن ازدرى العـلماء بـقي حقيـرًا).
فإن الوقوع في أعراض العلماء من الإعتداء والظلم، وغيبتهم ليست كغيبة العامّة ، فما بالك بمن يبدع بعض علماء السلف الذين أفنوا أعمارهم في التدريس والإفتاء والتصنيف ونفع المسلمين .
ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ الإمام يحيى بن شرف النووي (ت٦٧٦ًهـ) فإن له مكانة رفيعة بين العلماء – ولا سيما علماء أهل السنة والجماعة – على مر العصور ؛ فأخذوا عنه جيلاً بعد جيل ، دون انتقاص منه ، ولا طعناً فيه.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة هجمات شرسة على الأئمة والعلماء ، بتكفيرهم وتبديعهم والتحذير من مؤلفاتهم ؛ كالإمام النووي – رحمه الله – صاحب المؤلفات العلمية النافعة ، ولا أشك طرفة عين في جهل كل من يقوم بذلك ويدعو إليه في محاولة منه مستميتة للطعن والإطاحة بهذا الجبل الشامخ الأشم في العلم والمعرفة وتشكيك طلاب العلم في علمه وآثاره:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وهذه الظاهرة أطلق عليها فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد – رحمه الله – مسمى “البادرة الملعونة” حين قال في كتابه “تصنيف الناس بين الظن واليقين” (ص١٤) مانصه:
”وبهذا تعلم أن تلك البادرة “الملعونة” من تكفير الأئمة – النووي ، وابن دقيق العيد ، وابن حجر العسقلاني – أو الحط من أقدارهم ، أو أنهم مبتدعة ضلال ، كل هذا من عمل الشيطان ، وباب ضلالةٍ وإضلال ، وفسادٌ وإفساد ، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به ، ولكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون”.
ومما قالته اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة – لما سئلت عمن يتكلم ويحذر من العلماء أمثال الإمام النووي وغيره – وعلى رأسها سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن قعود والشيخ عبدالله بن غديان والشيخ عبدالرزاق عفيفي- رحمهم الله جميعاً – حيث ورد في “فتاوى اللجنة الدائمة” (٢٤١/٣) سؤال موجه للجنة نصه مايلي:
((ما هو موقفنا من العلماء الذين أولوا في الصفات مثل ابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم؟
فأجابوا:
”موقفنا من أبي بكر الباقلاني ، والبيهقي ، وأبي الفرج بن الجوزي ، وأبي زكريا النووي ، وابن حجر ، ..وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى ، أو فوَّضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم ، فرحمهم الله رحمة واسعة ، وجزاهم عنا خير الجزاء ، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة..”)).
فهذه مكانة الإمام النووي عند علماء أهل السنة والجماعة ، فلم يبدعونه أو يطعنون فيه بحجة مناقشة عقيدته وإنما يبينون ما خالفهم فيه فلعله قصد الحق فأخطأ في مواضع وربما تراجع عنه في آخر حياته كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ صالح العصيمي حفظه الله بقوله :(والنووي رحمه الله تعالى في باب الاعتقاد له مسائل خالف فيها طريقة أهل السنة والحديث .. لكن هذا كان قبل الإطلاع على كتاب للنووي رجع فيه عن اعتقاده القديم وهذا الكتاب هو جزء له في “مسألة الكلام لله سبحانه وتعالى ” فإنه صرح فيه بإثبات الصفات وألفه في الرد على مقالة الأشاعرة في كلام الله عزوجل ؛ وهذا الكتاب ثابت للنووي لا مطعن فيه – وألفه قبل وفاته بنحو ٣ أشهر – فإن له في الدنيا ثلاث نسخ ، وقد طبع طبعتين كلاهما على نسخة وحيدة دون اطلاع كل واحد منهم على نسخة الآخر.
والكتاب له ثلاث نسخ خطية وقد صرح في آخره بأن طريقته هي طريقة أهل السنة والحديث ، ومما يدل على هذا حال تلميذه علاء الدين ابن العطار فإن أخص تلاميذه له مصنف في الاعتقاد السلفي ، فكأن هذا الذي عرف من المذهب الذي صار إليه ، وهذه قرينة فإن مما يدل على مذهب الشيخ مذهب تلاميذه المختصين به.
وابن العطار أخص الناس بالنووي فرجوعه عن ذلك ظاهر ، فله أن يقال في حقه إمام باعتبار ماصار إليه رحمه الله تعالى ، لكن المسائل التي أخطأ فيها وكان على القول القديم تترك).
وعليه ينبغي لطالب العلم أن يحذر من الانجراف وراء هذه الدعوات التي تطال أهل العلم هذه الأيام بتبديعهم وتكفيرهم والحط من آثارهم ، وأن لا يستمع لأصحابها ، وأن يبتعد عن الوقوع في العلماء ، فإن ذلك سبب في فقد العلم ، وظلمة القلب ، وشتات الذهن ، وضياع العمر :
ولاتَكُ مِنْ قَومٍ تَلَهَّوْا بِدينِهِم
فَتَطْعَنَ في أَهْلِ الحَديثِ وتَقدحُ
والعلماء الحقيقيون هم من يعرفون قدر غيرهم من أهل العلم والفضل ومنزلتهم وقد اشتهرت مقولة عن الإمام الذهبي في حق الإمام النووي – رحمهما الله تعالى – يقول فيها: ”ليتني أعلم مافعل النووي مع الله تعالى حتى كانت له هذه المكانة”.
وقال شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين متحدثاً عن الإمام النووي – رحمهم الله جميعاً – :
“والظاهر – وﷲ أعلم – أنه من أخلص الناس في التأليف ، لأن تأليفاته – رحمهﷲ – انتشرت في العالم الإسلامي ، فلا تكاد تجد مسجداً إلا ويقرأ فيه كتاب رياض الصالحين ، وكتبه مشهورة مبثوثة في العالم مما يدل على صحة نيته ، فإن قبول الناس للمؤلفات من الأدلة على إخلاص النية”.
وإن من طبيعة العلماء البشرية أن يصيب كل عالم ويخطئ فينبه على ذلك لكي لايحتج بخطئه صاحب هوى أو شبهة ؛ مع إجلالنا للعالم واحترامنا له وحفظ هيبته وحقه.
وإن ما يحدث اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي من التعامل مع أخطاء العلماء بتبديعهم أو تكفيرهم أو الأمر بإحراق كتبهم كما حصل مع الإمام النووي والسيوطي وابن حجر وغيرهم لهو الجهل بعينه في عدم فقه “التعامل مع المخالف” مما لا يبقي لنا عالماً واحداً يستفاد منه أو من علمه وكتبه.
فيجب علينا أن نحمل كلام العلماء الذين عرف فضلهم وجهودهم في العلم على المحمل الحسن قدر الإمكان ؛ ونلتمس لهم الأعذار ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
والانتقاص من أهل العلم ليس من شيم العلماء ، بل من رعونة الجهلاء ، فينبغي علينا التأدب مع أهل العلم وإن ذكرت أخطاؤهم تذكر على سبيل التنبيه لا على سبيل التشهير والحط من قدرهم ومنزلتهم.
ومكانة الإمام النووي ستبقى عالية وجليلة فإن له اليد البيضاء وجميل العطاء على الأمة الإسلامية عبر عصورها المتعاقبة.
بما خلفه من آثار فاقت الآفاق وشاء الله لها أن تبقى قرناً بعد قرن ؛ فصارت عمدة العلم في شتى أنواع العلوم.
🔘إضاءة:
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
خالد بن محمد الأنصاري
مقالات سابقة للكاتب