مع ارتحالات (يعقوب النجدي) -٤

د. يوسف العارف

نعم إنها سيرة وطن ومجتمع من خلال ثلاث حيوات (حياة الآباء، والأبناء، والأحفاد) أو ثلاثة أجيال (جيل الابن والأب والجد)، وسيرة أمة ارتقت من الماضي حيث الكفاف والشح والحاجة إلى الحاضر حيث طفرة البترول وحياة التطور والتمدن والانتماء، وكذلك سيرة (فرد أو أفراد) تحولت حياتهم المعيشية من فقر وهروب من البيئة التي يعرفونها إلى بيئات جديدة وحديثة ومعالم تطويرية لم يألفوها فتحولوا – بعد ذلك – إلى رجال أعمال، وأصحاب مؤسسات غذائية، وقادة أعمال خيرية وثقافية، لهم أثرهم ودورهم في التطور والتمدن الاستثنائي.

كل هذه المعالم.. والعوالم الوطنية والمجتمعية نجد شواهدها في مجمل الرواية وعبر فصولها ومحاورها الـ (43) وسنختار منها ما يؤكد تجلياتها المضمونية، وأيقوناتها النصيَّة، وتفاعلاتها اللغوية، فيما يلي:

# التشرد في صحاري نجد الشاسعة، في السنين القائظة التي جفت فيها الأرض وتساقطت النخيل الواقفة، فطردت البلدان أهلها إلى بلدان أخرى.,. ص ص13-14.

# لكن مؤكد أنكم لا تحملون (تابعيات) لأن أعماركم أقل من النظام.. ص57.

# هذه الرياض يشرق صباحها في كل يوم على عالم جديد.. ص58.

# البيت ليس فيه كهرباء، وفي قسم الراديوهات وجدنا منها الذي يعمل على البطارية واقتنعنا بشرائه.. أحدث الراديو في جلستنا المسائية تغيراً كبيراً.. سمعنا فيه ما كنا نعتقد أنه كالأحلام والخيالات والرؤى، سماع الأخبار والأغاني والأحاديث والحوارات، ووجدنا فيه فائدة وتسلية لم نكن نتوقعها.. ص ص61-62.

# موسى الناعم واستقراره في الكويت.. أخبرني عن المجتمع هناك وعن فرصة الحياة المختلفة عن الرياض ومعيشتها والانفتاح فيها فأقنعني بالسفر معه.. استخرجت جواز السفر.. ص80.

# وفي الكويت رأيت مدينة حديثة وشوارع فسيحة والسيارات تجوبها على اختلاف أشكالها، رأيت أناساً مختلفي الألوان والأشكال الأحجام، رأيت أمكنة يزورها الرجال والنساء.. ص83.

# الرياض لا تختلف عن زليفات في انغلاق الأزقة والشوارع والبيوت.. معظم النساء التففن بعباءات سوداء.. الرياض مدينة محافظة يتسلل النوم إليها بعد صلاة العشاء مباشرة، عمالتها من الإخوة اليمنيين.. ص ص 89-90.

# الرياض التي أراها أمامي ليست هي الرياض التي غادرتها.. الرياض كل يوم تتغير وتتحول وتتسع وتتمدد، تستبدل ثوبها القديم بثوب جديد.. كانت (الناصرية) هي آخر حي في شمال الرياض وهاهي اليوم تدخل ضمن الأحياء الداخلية.. ص53.

# في الكويت رأيت التلفزيون لأول مرة، أما السينما ففي كل نهاية أسبوع نذهب معاً أنا وموسى الرملة نشاهد أفلاماً جميلة وجديدة من مصر ولبنان، وعرفت المسرح، ورأيت النساء واختلاطهن بالرجال بملابس حاسرة لما فوق ركبهن وشعورهن بأشكال مختلفة.. النساء هنا فوق الرؤى والأحلام.. ص90-91.

# أثناء هذا الصيف حدث ما لم يكن في الحسبان فقد تم غزو الكويت من القوات العراقية واهتزت بلادنا لهذا الأمر وخرجت وبعض إخواني إلى الحدود السعودية الكويتية لغوث من تواصل معنا.. وجدت المئات الذين هربوا من بربرية الطغاة، ساعدنا من نستطيع مساعدته وعدنا إلى الرياض ووقع المأساة والفجيعة على وجوههم.. ص113.

# وفي الرياض وأثناء ترجلي من السيارة وأهم بالدخول إلى العمارة فإذا بصوت انفجار هائل يهز المنطقة ويسقطني متدحرجاً أمام العمارة.. ص228-229.

# انفجار إرهابي وقع في مجمع للعسكريين توفى منهم سبعة والإصابات بالعشرات.. ص23.

# ما يجري في الرياض من تفجيرات غريب علينا – ياترى ما الذي أوصل شبابنا إلى هذا المنحنى والتفكير في التكفير لكل أهل الوطن ومن يقيم بيننا.. ص231-234.

هذه شذرات من الفضاءات النصية/ اللغوية عن التحولات المجتمعية وسيرة الوطن وحياة التنامي والتطور، لكن تظل (زليفات) هي صاحبة الأثر والتأثير على شخصية بطلنا (يعقوب النجدي) فلازالت الصورة الضبابية والعدائية هي المسيطرة على فكره وتوجهاته رغم كل التحولات والارتحالات يقول عنها:

# حاولت أن أنسى بلدتي التي طردتني، بلدتي التي لا تعرف إلا الموت مصيراً لأهلها، بلدتي المهلكة الهالكة، الموجعة الجائعة، المقلقة المتشائمة، بلدة تتوشح دوماً بالسواد… ص193.

# زليفات طاردة لي وللعشرات من فلذات الأكباد، وقد علمت أنها شردت من يقتني مذياعاً صغيراً.. ص126.

# إنها أرض التباعد والانعزال والفردية والذاتية الكبرى.

ومع هذه الصور السلبية عن بلده (زليفات)، إلا أنه يشير إلى شيء من مواقفه الإيجابية تجاهها فهو يرسل مع من يزورها إلى أقاربه وجيرانه بعض الهدايا والعطايا.. ص78.

وفي أواخر حياته أعلن عن تحويل الأرض الموجودة في زليفات والتي كانت مهيأة لمشروع السوبر ماركت إلى مشروع خيري متكامل أهمها مركز الفضيلة الثقافي وهو نسخة من مشروعه الأساس في الكويت.. مع جامع كبير ومركز صحي ومدارس لتعليم القرآن.. ص240-241 ورغم ذلك لم تتغير الصور السلبية عن (زليفات) ولم يشر إلى التمدن والتطور فيها!!

*    *    *

(8) وختاماً.. فليس لنا – كنقاد – إلا أن نزداد سعادة مع (يعقوب النجدي) الذي ختم حياته بسعادة لا توصف بسبب أعمال الخير التي وُفق إليها، والنجاحات المتتالية التي حصدها، وأنه كلما قدم على عمل خيري جديد انفتح عليه باب رزق جديد، وجاء المال إليه من غير أن يسعى له.. ص241.

وبالتأكيد فقد أحسسنا بسعادة كبيرة ونحن نقلب صفحات هذه المدونة الإبداعية/ الروائية، ونتعايش مع ارتحالات يعقوب النجدي، وتجليات خالد اليوسف، ونفتق رموزها ودلالاتها وتكاشف موضوعاتها ومتنها الحكائي، ونتلمس جمالياتها وفنياتها الأسلوبية واللغوية ومساراتها الروائية، وإن كانت لنا بعض الملحوظات النقدية لعل فيها تلاقحاً للأفكار وتطويراً للعمل، وتثاقفاً إيجابياً:

أولاً: عدم توظيف المفردات المحلية/ الشعبية، و(فصحنة) الكلمات رغم القدرة على ذلك والفضاء المتأتي لهذه التقنية الروائية مثلاً كلامة (المقيبرة) = (المزيبرة) (حرف بين الجيم والزاي)!! ص49.

رايتك عالية = رايتك بيضا   ص 40.

تفضلوا = اقلطوا   ص46-50.

أهلاً بأخي… = أهلاً بخوي   ص100.

ثانياً: عدم استخدام اللهجة اليمنية في الحوار الدائر بين بطل الرواية وإخوانه والعامل اليمني في المقهى.. ص51-53.

ثالثاً: النهاية والخاتة والقفلة الروائية غير المتوقعة فاختيار الكويت مقراً نهائياً لبطل الرواية غير مقنع نقدياً، وكان الأجدر أن تكون (زليفات) هي المستقر الأخير للابن الهارب والخارج عنها بسبب ظروف المعيشة!!

رابعاً: الصورة السلبية التي رسمها بطل الرواية عن  بلدته (زليفات) رغم التطور التي عاشته حقيقة وواقعاً، وعدم الإشارة إلى هذا الأمر!!

خامساً: الفصل  أو المحور رقم 36، يشعرنا – كقراء ونقاد – بأنه نشاز عن الفضاء الروائي فلا علاقة له بأبطال الرواية (الموسويين) الثلاث، وليس له تماس مع أحداث الرواية وموضوعها الأساس ولو أسقطناه من الرواية لما تأثرت حبكتها ولا مسارها البنائي.

ومع هذه الملحوظات النقدية، إلا أن جماليات الرواية تستدعي أن نقول إننا إزاء عمل إبداعي يختطه خالد اليوسف ليضيف إلى مدونته  القصصية والروائية عملاً متماسكاً ذو رؤية جديدة وفنيات معاصرة ولعل أجمل ما لفت نظري ما يلي:

أولاً: التقسيم والتفريع الرقمي للرواية وبناءها النَّصي وفضاءاتها الخطابية قصيرة المدى والمقروئية ففيها تحفيز وجذب للقارئ، واستنهاض للهمم القارئة والتواصل الثقافي.

ثانياً: الملامسة (الآيروتيكية) في بعض فصول ومحاور الرواية بشكل جمالي وأسلوبي ليس فيه فحش أو معاني جنسية واضحة، لكنها لقطات معبرة وذكية ومقبولة كما في الصفحات 65، 66، 73، 74.

وهناك الكثير والكثير من الجماليات نتركها لفطنة القارئ، وللقراءات والمقاربات النقدية لغيرنا من النقاد والدارسين!!

وبعد: فقد كنا في سياحة ناقدة، وقراءة تتبعية، ومقاربة جمالية، مع مدونة روائية/ سردية أبدعها خالد أحمد اليوسف، وأصدرها مطبوعة عام 2023م عن دار الانتشار العربي. ولعلنا أضفنا إليها شيئاً من التأويل والمثاقفة والتفتيق النصِّي الذي يكاشف المخبوء، ويتواصل مع الملامح والدلالات، وصولاً إلى القراءة الإيجابية.. قراءة التأمل والمكاشفة والتأويل.

والحمد لله رب العالمين.

د. يوسف حسن العارف

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *