قِصَّةُ الهِجْرَةِ النَّبَويِّةِ (٣)

الحمد لله الذي جعل الهِجرةَ فتحًا ونصرًا وعزًا للإسلامِ وفخرًا للمسلمين. والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد المرسلين وإمام المهاجرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فبعد أن وقفنا على مرحلتين من حياة الحبيب – ﷺ – ماقبل الهجرة، نستعرض المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي برزت ملامحها الأولى بعد تنبؤات الهجرة النبوية في أوائل بعثته – ﷺ – حين رجع إلى الزوجِ الحنون العاقلة الكاملة خديجة – رضي الله عنها وأرضاها – وفؤاده يرجف، يحكي لها تفاصيل ما حل به حين نزل عليه جبريل بالوحي، فما كان منها – رضي الله عنها – في هذا الموقف العصيب إلا أن ثبتت فؤاده بهذه الكلمات الخالدة التي خلدها التاريخ “كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”

هذي خديجةُ نَبْضُ قلبٍ لم يَزَلْ
يأْوي إليه المصطفى ويَشِيْدُ

فرشتْ له قلبًا كأنَّ حنانَه
ظِلٌّ على خيرِ الأَنامِ مَدِيدُ

ظلَّتْ بهِ حتى اطمأنَّ فؤادُه
ورأى تباشيرَ الصفاءِ تَعُودُ

أبشر فلن يُخزيكَ ربك إنهُ
للأنبياءِ المرسلينَ عضيدُ

ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان عنده علم من التوراة والإنجيل، فلما قصَّ عليه النبي – ﷺ – ما كان له من بدايات الوحي الذي نزل عليه، قال له نوفل: ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومُك.

فتعجب النبي – ﷺ – من حديثه، وبلغ به العجَبُ كلَّ مبلغ، فقال: (أَوَمُخْرِجِيَّ هم !؟) استفهام استنكارى على وجه التألم والتفجع، 
قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.. الحديث.

فتمضي الأيام، ويُشاهد النبي – ﷺ- هذه الأذيَّة وهذا العِداء من قومه، “ما جاء رجل بمثل ما جئتَ به إلى عودي” عاداه قومه وحاربوه، بعد أن مكث – ﷺ – في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى الإسلام، ويبصرهم بشرائعه، لا تصرفه عن دعوته الشواغل، ولا يثنيه عن التبليغ وعد أو وعيد.

فلم يقبلوا منه، ولم يتحرجوا في استخدام التعذيب والقتل والسجن مع المؤمنين الذين آمنوا به وبدعوته.

فصبر – ﷺ- وصابر وتحمل من أذى قومه ما لا يقدر على تحمله الرجال أولو القوة، وحين اشتد العذاب بأصحابه وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة فرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.

ولما رأى المشركون كثرة خروج المسلمين إلى المدينة خافوا من خروجه – ﷺ – إلى المدينة، فاجتمعوا في دار الندوة وقرروا قتله، فأعدوا مؤامرَتَهم لهذا الغرض الدنيء، وأشركوا جميع القبائل في قتله، حتى يتفرق دمه بين القبائل، وقد سجل القرآن الكريم نبأ هذه المؤامرة الخسيسة في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ،[ الأنفال: ٣٠]

ومع كون الحبشة مأوى صالح للهجرة ومكانًا مناسبًا للحماية، لكنها لم تكن تصلح أن تكون مركَزًا للدعوة، ومعقلًا للدين، ولهذا لم يفكر النبي – ﷺ – في الهجرة إليها، واستمر في عرض دعوته على القبائل العربية التي كانت تفد إلى مكة، أو بالذهاب إلى بعضها كما فعل مع قبيلة ثقيف في الطائف.

وعندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى، لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام، وتلاوة القرآن عليهم، فلمَّا جاؤوا في العام التالي، شرح الله صدورهم للإسلام، فبايعهم على العبادات، والأخلاق، والفضائل، فكانت بيعة العقبة الأولى وكان عددهم اثنا عشر رجلًا، وبدأ الإسلام ينتشر في يثرب على أيديهم، يقودهم أول سفير في الإسلام مصعب بن عمير – رضي الله عنهم جميعًا.

فلمَّا جاؤوا في العام التالي؛ كانت بيعة العقبة الثَّانية على الجهاد، والنَّصر، والإيواء، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين.

وَلَم يَزَل سَيِّدُ الكَونَينِ مُنتَصِبًا
لِدَعوَةِ الدِّين لَم يَفتر وَلَم يَجِمِ

حَتّى اِستَجابَت لَهُ الأَنصارُ وَاِعتَصَمُوا
بِحَبلِهِ عَن تَراضٍ خَيرَ مُعتَصمِ

لم يسارع النبي – ﷺ – بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى؛ وإنَّما أخَّر ذلك لأكثر من عامين؛ حتَّى تأكَّد أنَّ الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كمالَه، وذلك بطلبهم هجرة الرسول- ﷺ – إليهم، وأذن لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فبدأوا يتسللون من مكة إلى المدينة، وكان أول من هاجر أبو سلمة، وتتابع في ذلك المهاجرون مستخفين، وظل – ﷺ – بمكة حتى يأذن الله له.

لم تكن الهجرة نزهةً؛ ولكنها مغادرةُ الأرض، والأهل، وأسباب الرِّزق، والتخلي عن كلِّ ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهدٍ كبيرٍ، حتى وصل المهاجرون إلى قناعةٍ كاملةٍ بهذه الهجرة، ومن تلك الوسائل: التَّربية الإيمانيَّة العميقة، والاضطهاد الذي أصاب المؤمنين.

وفي الجزء الرابع من المقال نستعرض بمشيئة الله – تعالى – الإذن بالهجرة، وحسن التخطيط الذى ظهر جليًا فى خطة محكمة للهجرة، باختيار الرفيق، والوقت، والطريق، والدليل.

اللّهم أَحينا على سنَّةِ نبيِّك محمد – ﷺ – ووفقنا لسيرته والسير على منهاجه، وتوفنا على ملته، وارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، واكرمنا بمرافقته في الفردوس الأعلى.

والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

حسن مهدي قاسم الريمي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *